قبل شهر ونصف جلس يحدث أمه عن القضاء والقدر، وإن كان الموت قدره سيلقاه حيثما كان، ربما يحاول أن يطمئنها ويهدأ من روعها، بعدما أخبرها برغبته في الهجرة إلى إيطاليا، فلم يعد أمامه سوى 6 أشهر ويبلغ الـ 18 عاما، وحينها لن يتمتع بحق الإقامة هناك وسيُرحل إلى بلاده ثانية.
محمد ..أحد ضحايا مركب رشيد
توسلت إليه "بلاش يامحمد..ربيتك وكبرتك وأوديك للسمك ياكلك بأيدي؟ "، ولكن لم تفلح محاولات الأم في إقناع صغيرها بالعدول عن الهجرة.
أصر "محمد" على الرحيل ليعود إليها بعد يومين داخل "كيس أسود" جثة هامدة وقد تغيرت ملامحه، لم يستدل عليه والده إلا من ملابسه الداخلية بعدما نفخت مياه البحر جسده النحيل وترك السمك آثاره على وجهه.
صورة أرشيفية.. جثث ضحايا مركب رشيد
لم تجف دموع الأم يوما، لاتزال تتشح بالسواد حزنا على فراق ابنها، تتذكره وهو يطوف بها بين الأطباء بعدما أُصيبت بسرطان الثدي، يهون عليها ويذكرها بالصبر على الابتلاء ويعدها بألا يتركها حتى تُشفى، وقد تركها بعدما تعافت قليلا من آثار عملية الاستئصال، تشرد بذهنها تسترجع في مخيلتها ما كان يعانيه على صغر سنه ليخفف عن أبيه عبء الحياة .
والد محمد وخالته
يصيح الأب بنبرات حادة غاضبة "حسبنا الله ونعم الوكيل..ربنا ينتقم من الظلمة لو كانوا موفرين للشباب شغل مكنوش عملو كده.. زهقوا من عيشتهم وراحوا للموت برجليهم"، يهدأ قليلا ليسرد معاناة ابنه اليومية.
منذ اشتد عود "محمد "ودخل المرحلة الإعدادية بأحد مدارس كفر كلا الباب بمحافظة الغربية، اتجه إلى العمل فبات يخرج من السابعة صباحا ويعود في الـ11 ليلا، ليعمل صبيا لدى مبلط سيراميك بعد انتهاء يومه الدراسي.
20 جنيها أو 30 إذا نال رضى "معلمه"، يعود بها محمد لمنزله بعد يوم عمل شاق، وعلى قلتها في زمن اشتعلت فيه الأسعار تصبح "كالنواية اللي تسند الزير" إذ كان والده كمال أبو السعود موظف بنسبة عجز يتقاضى 800 جنيها فقط شهريا، ينفق منها على زوجته وأولاده الثلاثة.
"مفيش دخل..يسرق طيب ولا يعمل إيه كل حاجة بقت نار، والولا صحابه كلهم في إيطاليا والشباب بيغروا بعض" يستطرد: أن ابنه اتصل بالسمسار الذي هرب أصدقائه واتفق معه على 25 ألف جنيه يسددها بعد الوصول، فطلب منه الحضور في اليوم التالي في موقف الإسكندرية، ولكن بعد 10 أيام عاد لمنزله .
في المرة الأولى فشل السماسرة في تهريب المهاجرين، فاحتفظ بهم في أماكن تعرف بـ "التخزين" في الإسكندرية عند شارع 45 بجوار الأسدين، بحسب وصف "محمد" لأبيه، كما يرويه لنا الأب، هناك عمارات سكنية مطلة على البحر يستخدمها السماسرة في تخزين المهاجرين مع سحب متعلقاتهم الشخصية من أوراق تثبت هويتهم وهواتفهم المحمولة، حتى موعد انطلاق المركب .
بعد 10 أيام من التخزين وصلت تعليمات للمهاجرين بالتوجه إلى ميناء أبو قير للخروج في مراكب صيد صغيرة ومنها للمركب الأكبر التي ستخوض الرحلة إلى إيطاليا، المنتظرة عند حدود المياه الإقليمية لمصر، ولكن رصدتها خفر السواحل وأطلقت عليهم النار ففروا هاربين، وعادوا مرة أخرى إلى القاهرة حتى تهدأ الأوضاع.
بعد يومين من العودة اتصل السمسار بـ "محمد" يوم الثلاثاء وطالبه بالانطلاق في المساء إلى رشيد فقد حان موعد الرحيل، وأخبره بأن مركب أخرى وصلت إلى إيطاليا في اليوم ذاته على سبيل الاطمئنان لسلامة الرحلة، إلا أنه في صباح اليوم التالي توالت الاتصالات على الأب لتخبره بغرق "مركب رشيد" يوم 22 سبتمبر، التي راح ضحيتها ما يزيد عن 200 غريق، من بين نحو 600 شخص كانوا على متنها .
بعدما انتهى "أبو السعود" من دفن جثة ولده، أسرع إلى قسم الشرطة يبلغهم عن أسماء السماسرة، الذين تورطوا في تهريب ابنه وغيره من أبناء القرية "أ.ح.س"، "أ.ف.ا"، "ع.ا.ف.أ.ج"، "أ.غ"، ولكن إلى الآن لم تحرر الشرطة في البلاغ ولم تلق القبض عليهم.