حصل موقع "مصر العربية" على نص كلمة الأنبا إبراهيم إسحاق بطريرك الكنيسة الكاثوليكية، والتي من المقرر إلقاؤها بعد قليل في قداس عيد الميلاد المنعقد بكنيسة القديس كيرلس –ميدان الكربة.
وجاء نص الكلمة على النحو اللآتي:
في مغارة مهجورة، والناس نيام والكون يلفُّه الظلام، عذراء اصطفاها الله لتلد الابن الكلمة المولود فى الذات الإلهية، يسوع المسيح، تجسد كلمة الله وصار إنسانًا مثلنا في كل شيء ما خلا الخطيئة وحدَها.
فى ليلة الميلاد هتفت السماء بأعظم رجاء بُلِّغَ به البشر: المجد لله في العلا وعلى الأرض سلام للبشر المستقيمي النوايا، الذين ينشدون سلام القلب ويرغبون في فعل الخير، فلهؤلاء مولد المسيح عُربون رجاء ومنارة هداية. إن حدث الميلاد في وقته كان ضئيلاً ولم يتوقع له أحد أن يخلف أثراً: مجرد طفل فقير يرى النور فى ركن خفي من الإمبراطورية الرومانية التى كانت عاكفة على إحصاء رعاياها لتدعيم سلطانها حاسبة إياه خالدًا. واندثرت الإمبراطورية وشاع فى كل المسكونة الاحتفال بمولد ذلك الطفل العجيب.
ومنذ تلك الليلة المتوهجة في تاريخ البشر، اتحد الله بالإنسان اتحادًا بلا انفصام. فما من إنسانية حقَّة بمعزل عن الله، ولا من ألوهية حقة بمعزل عن احترام الإنسان وخدمته. غير أن خدمة الإنسان تفقد كل معناها، إن لم تتحد باستمرار، وإن لم تظل تتغذىٰ من مصدرها الأصيل، حب الله.
أولاً: ميلاد السيد المسيح هو عظمة تواضع الله
احتار الفلاسفة والمفكرون حول سر التجسد، وهل يستحقه الإنسان الخاطئ الضعيف..؟، ولكن المسيح أثبت لنا بحياته وتواضعه مدى عظمة مجد الله وتواضعه، وتواضع الله ليس ضعفًا بل إرادته أن يتحد به الإنسان الذي يحمل رسالة الحياة وأمانتها فى إيمان وعمق ورجاء ثابت.
فإن كان الوحي الإلهي قد أشار إلى خطيئة آدم وحواء وهي الكبرياء والرغبة فى الألوهية دون الله، فلا تزال كبرياء الإنسان تمزق وجدان البشر، ففي الحضارات المتتالية كم من بشر ألَّهُوا أنفسهم، ومع التقدم والرقي اتخذت الكبرياء طرقًا جديدة، بعضهم ينادي برفض الإيمان والدين، وبعض آخر ينكر وجود الله ويوم الدينونة.
بعض جعل العبادة للمال واللذة والسلطة، فلم تنقطع الحروب بين البشر، ولن تنقطع مادام يظنّ الناس أنه بالإمكان الاستغناء عن الله، وإن كان الله القدوس قد خلق الإنسان حرَّ الإرادة فهو تبارك اسمه يحترم هذه الحرية. ولذا فالخلاص ليس قهراً والإيمان لا يكون إكراهًا، والذين يرتكبون المعاصي أُعطيت لهم الحرية والحياة للتوبة، والله لا يرغم أحدًا على محبته وطاعته، فالله المحبة هو الله التواضع.
فئتان من البشر اكتشفتا الطريق إلى مغارة بيت لحم، الرُّعاة البسطاء المعترفون بأنهم لا يفقهون شيئًا، والمجوس العلماء المعترفون بأنهم لا يفقهون كل شيء. الله لا يتحدث إلى من يدّعون معرفة كل شيء، لذلك لا يسمع المتكبرون صوته، بل المتواضعون الحقيقيون وحدهم يسمعونه.
إن كبرياء البشر لا تبني سوى بروج بابل ومدن الفوضى والحقد، في حين أن اعتمادنا على الله في تواضع وثقة، يكشف لنا حقيقتنا ويقيمنا في ديار الحب البنّاء، ويجعل من حياتنا على غرار طفل بيت لحم جسرًا بين السماء والأرض.
ثانياً: ميلاد المسيح يجسد الرحمة الإلهية
ختمت الكنيسة الكاثوليكية سنة اليوبيل الاستثنائي التي كُرست للتأمل في رحمة الله ونشر كل ألوان هذه الرحمة فى أنحاء الأرض. وتظل رحمة الله واضحة في تاريخ البشر قديمًا وحديثًا.
اختار الله أن يدخل زمان وجغرافية البشر، وكأنه اختار أن يكون إنسانًا ضعيفًا ليتحد بكل الضعفاء على الأرض، وقريبًا وعطوفًا على الخطاة، وملجأ الذين لا معين لهم لأنه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، ليقترب منه كل ضعيف أو متألم دون خوف أو إحساس بالمهانة.
ميلاد المسيح خلاص للإنسان وتحرير له من عبودية الخطيئة وسموٌ بقيمته وكرامته، وكأنه خلق جديد كما يقول بولس الرسول "من كان في المسيح فهو خليقة جديدة".
إن تعاليم المسيح في أمثاله وخاصة في مثل السامري الصالح (لو10: 25-37) الذي يطرح فى نهايته سؤالاً: أىٌ من هؤلاء الثلاثة مارس الرحمة والمحبة؟ إنه الانسان الذي يحب كل إنسان حتى عدوه. فالرحمة صفة جوهرية خاصة بالله القدوس، يسكبها في قلوب المؤمنين الحقيقيين والصالحين فيصبحون رحماء على مثاله.
لهذا فالمسيح هو المثل الإلهي الذي جسّد الرحمة الحقيقية بكل معانيها: ميلاده الفقير يتحد بالأطفال الفقراء واللاجئين في كل عصر ومكان، وحياته التي يجوب فيها يصنع خيرًا، وتعاليمه التي اخترق بها العنصرية وتعصب الأمم، وجعلها سراجًا منيرًا للعصور بعده لكي تسير نحوها.
جاء المسيح حقًّا نورًا للعالم، من لحظة ميلاده إلى فجر قيامته. التجسد هو فعل حب إلهي، بفضله نستطيع أن نلمس حضور الله في دقائق حياتنا اليومية.
ما أحوج عالمنا اليوم إلى التأمل في ميلاد السيد المسيح وحياته وتعاليمه، فالبشرية في حاجة إلى صياغة جديدة للعلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان، علاقات تحترم كرامة كل شخص وتقدس معنى الحياة. فهذا العالم في حاجة إلى أن ينبذ العنف والقسوة والظلم، وأن يُرسيَ حقوق الشخص البشري، وأن تتعمق في الأجيال الصاعدة ثقافة العدل والرحمة والسلام.
لـيتـمجـد الـله فـي الأعـالـي
ولـيحـلَّ عـلـى الأرض الـســلام
وتـسـود بـيـن الـبـشـر الـمســرة.
خـتـامـاً:
نرفع صلاتنا متحدين مع قداسة البابا فرنسيس، الذي يصلي من أجل وطننا العزيز في هذه الأوقات العصيبة التي تمر بها بلادنا.
نرفع صلاتنا متحدين مع قداسة البابا تاوضروس الثاني، بابا الإسكندرية وسائر الكرازة المرقسية للأقباط الأرثوذكس، وكل أبناء الكنيسة في مصر، من أجل شهداء الحادث الإرهابي الغادر في الكنيسة البطرسية، مؤمنين أنهم يشاركون القديسين في فرح الملكوت، كما نصلي لكي يغمر الله قلوب عائلاتهم بسلامه وعزائه, وأن يمنح الشفاء لكل المصابين.
نبعث إلى السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي وكل المعاونين له في قيادة مصرنا الغالية رسالة محبة وتأييد، وإلى كل شرفاء هذا الوطن العاملين من أجل كرامة المصريين، طالبين من الله أن يعمل كل مصري في موقعه بجدٍّ وأمانة لكي نواجه بشجاعة ما نحن فيه من تحديات وصعوبات، لتعبر مصر إلى مستقبل أكثر ازدهارًا وتقدمًا.
نصلي من أجل الأمهات والآباء الذين يسهرون على تربية أبنائهم لبناء مستقبلهم، كما نبعث لأبنائنا فى بلاد الانتشار رسالة محبة وسلام ونقول لهم أمام العالم إن مصر فى طريق البناء والتقدم، وإنها خالدة بعرق أبنائها واتحادهم ووعيهم بمسؤوليتهم، بشفاعة وصلوات أمنا مريم العذراء وجميع القديسين.
وكـل عــام وحـضـراتـكـم بـكـل خـيــر.