ترامب أمام معضلة تقليص النفوذ الإيراني

دونالد ترامب

قالت السمراء البرتغالية أن في لغتها الجميلة كلمة لا يقابلها مثيل في أي لغة حية هي saudade، ذلك أنها تصف حالة ذهنية يتزاوج فيها الشعور بالحزن والغضب لفقد شيء غيبه الزمن مع اللهفة لتحقيق حلم صعب المنال. بعض من هذا المعنى المركب تجده دوماً في أحاديث الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب عندما يستعرض رؤاه لسياسات بلده داخلياً وخارجياً، حتى أن الشعار الذي خاض به حملته الانتخابية يستبطن هذا المفهوم بجلاء «فلنعيد العظمة لأميركا مجدداً».

وعندما ينظر ترامب إلى منطقة الشرق الأوسط فإنه لا يستثنيها، بل يستخدم نفس هذه العدسة القائمة على المزاوجة بين السخط على ما أخفقت بلاده في تحقيقه حماية لمصالحها في هذه المنطقة، والتطلع بعزم لتحقيق انتصارات سريعة وحاسمة تحفظ هذه المصالح حتى وإن بدت المهمة عصية على التنفيذ. واللافت أنه عندما اختار مرشحاً لحقيبة الدفاع ومستشاراً للأمن القومي فقد فضل أن يكونا من مستخدمي ذات العدسة التي تمسك بها في مرحلتي الانتخابات التمهيدية والعامة.

في المسألة الإيرانية مثلاً عبر ترامب غير مرة عن رفضه واستهجانه لخطة العمل المشتركة التي وقعتها بلاده والدول الكبرى مع إيران في تموز (يوليو) ٢٠١٥ في شأن برنامجها النووي. محط استياء الرئيس المنتخب وفريقه ممن سيصبحون أركان إدارته هو أن تلك الخطة جمدت من دون أن تمحو الطموح النووي لإيران، كما منحت للاقتصاد الإيراني قبلة حياة كان في أمس الحاجة إليها عبر إزالة قدر معتبر من العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليه، وفي المحصلة أتاحت الخطة لطهران أن تستخدم ثمار انفتاحها على الاقتصاد العالمي في المزيد من تمويل التنظيمات الإرهابية وزعزعة الاستقرار الإقليمي ومواصلة برنامجها لتطوير الصواريخ الباليستية العابرة للقارات. من هنا لا يرى الرئيس المنتخب غضاضة في نقض هذا الاتفاق وإحكام خناق العقوبات على إيران مع حث الخطى لتقليم أظافرها إقليمياً.

أما في شأن الحرب على التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها «داعش» فمروحة غضب الرئيس المنتخب واسعة وممتدة، تبدأ من انتقاد الغزو الأميركي للعراق الذي قوض سيطرة السلطة المركزية على ترابها الوطني ما أتاح للإرهاب ملاذاً آمناً في بعض ربوع البلد، وتمر عبر الاستياء من تردد وميوعة إدارة الرئيس أوباما في مواجهة خطر إعلان «داعش» ما أسمته بدولة الخلافة بالقوة العسكرية الواجبة، وتصل إلى استهجان تهرب الإدارة الديموقراطية من الاعتراف بحقيقة كون «داعش» تجلياً لمشـــكلة أعمق هي شيوع أيديولوجية الإسلام الراديكالي. ويخلص ترامب إلى حتمية الحسم والحزم معاً في هزيمة التنــظيم عسكرياً ووأد الحاضنة الفكرية التي خرج من رحمها.

إن أردت مثالاً ثالثاً فانظر إلى الشأن السوري، ما يغضب ترامب هنا هو انحراف بوصلة واشنطن التي ركزت على إقصاء الأسد وتغافلت عن مكافحة التنظيمات الإرهابية الناشطة على الأراضي السورية، ثم جرى استدراج الولايات المتحدة لتمويل وتسليح وتدريب جماعات للمعارضة المسلحة من دون الوثوق من اعتدالها واستقامة توجهاتها مع المصالح الأميركية، ويبدو الحل من وجهة نظر الرئيس المنتخب متمثلاً في تصويب البوصلة عن طريق حصر الجهد الأميركي في محاربة الإرهاب، ولا يرى الرجل بأساً من التعاون والعمل المشترك مع روسيا لهذا الغرض.

استاءت المرأة البرتغالية كثيراً عندما حاججتها بأن لغتي الأم تحوي ألفاظاً تستطيع التعبير عن ذات المعنى الذي قصدته بشرحها، وأخذت توضح لي أن خصوصية كلمة saudade في تراث بلدها تكمن في أن المزاوجة بين غضب الفقد ولهفة الحلم تكون أحياناً نوعاً من الهرولة خلف السراب، فما تبكي لفقدانه لم يكن يوماً ملك يمينك وما تتطلع لبلوغه ليس إلا قبض الريح.

هذا التوضيح شديد الأهمية في فهم المعضلات التي سيواجهها ترامب عندما يشرع في وضع رؤاه للتعامل مع مشكلات الشرق الأوسط موضع التنفيذ ومنها على سبيل المثال لا الحصر: أنه لا يستطيع نفض يديه من خطة العمل الشاملة مع إيران في وقت لا يملك فيه عصا بديلة ليضعها في عجلة البرنامج النووي الإيراني لمنعها من العودة للدوران، وأنه لن يتمكن من لجم النفوذ الإقليمي لإيران إذا تقلص دوره في سورية عند حدود محاربة الإرهاب فقط، وأنه إذا اختار غــــض البصر عن الرجل القابع فــي قصــــر الشعب بدمشق فقد اختار ليس فقط أن تظل لإيران الكلمة الفصل في سورية، بل وأن يكــافئ طهران بمنحها نقطة إضافية لمهاجمة إسرائيل متى وكيفما أرادت، وأنه إذا أراد حماية القطع الحربية الأميركية من مواصلة التعرض لصواريخ الحوثيين عند المدخل الجنوبي لمضيق باب المندب فإن عليه ضخ المزيد من الاستثمار العسكري في المنطقة بالتعاون مع حلفائه فيها، وأنه إذا أصر على اجتثاث ما يعتبره حاضنة فكرية للإرهاب بالطريقة التي فصلها مستشاره للأمن القومي في كتابه الأخير فسيجر بلده لحقل ألغام يمتد على اتساع العالم الإسلامي وفي القلب منه حلفاء لواشنطن بالمعني التعاقدي والعملي.

من المهم التأمل ملياً في دلالة إصرار الرئيس المنتخب على تجنب الإحاطة اليومية التي توفرها له أجهزة استخبارات بلده منذ أعلن فوزه بالمقعد الرئاسي، إذ يدرك الرجل أن مواجهة الحقائق على الأرض ستجرده من عناصر غضبه وأعمدة أحلامه واحداً تلو الآخر. وبعقلية رجل أعمال استمرأ الربح يحاول ترامب الإفلات من مرحلة إشهار إفلاسه، وسيمضي الشهور الأولى داخل البيت البيض في محاولات جادة للبحث عن بدائل سياسية قابلة للتطبيق وقادرة على تحقيق وعده الانتخابي الأبرز المتعلق بإعادة إنتاج عظمة بلاده.

ستكون الشهور المقبلة فرصة لمن يريد ومن يستطيع من دول المنطقة وحكامها أن يقدم للرئيس الأميركي الحائر أوراق اعتماده كشريك للولايات المتحدة في صياغة الرؤى وتنفيذ السياسات. بعض عواصم الإقليم فطنت لمتطلبات المرحلة وشرعت في تجهيز ملفاتها بما في ذلك مطالبها والأثمان المستعدة لسدادها، فيما البعض الآخر لم يلبث يراوح مكانه متوهماً أن الشجرة الأميركية المثمرة ستسقط له طعامه من دون أن يريق عرقه ودمه.

 

نقلا عن الحياة

مقالات متعلقة