انتقد حازم حسني، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، طريقة تناول الرئيس عبدالفتاح السيسي لأفكاره، وتنفيذه لها.
وكتب "حسني" عبر حسابه الشخصي على "فيسبوك"، مقالًا مطولًا تحت اسم "الورم السرطاني الذي لا يراه الرئيس".
وإلي نص المقال
مشكلة الرئيس هى أنه يمارس الفكر دون أن يمتلك أدواته، ويعبر عن فكره هذا دون امتلاك ضوابط التعبير .. لذلك تأتى دائماً أفكاره التى يعبر عنها دائماً وقد أصابتها التشوهات، مما يعرضه ويعرضنا معه للحرج من تناول خطابه العام بالنقد، والرد على منطق حديثه بالتفنيد، مما أساء - مع تكرار النقد والتفنيد - لمقام الرئاسة الذى كان على الرئيس أن يكون فى مقدمة المدافعين عنه، لا بالتنكيل بمعارضيه وإنما بالحرص على ألا يمارس الفكر دون أن يمتلك أدواته، وعلى ألا يعبر عن أفكاره دون امتلاك ضوابط التعبير !
أقول هذا بمناسبة حديث الرئيس بالأمس عن المشروعات الاقتصادية للقوات المسلحة ... وبدايةً، فإن تبعية بعض المشروعات الاقتصادية للقوات المسلحة ليس بدعة ينفرد بها الجيش المصرى دون غيره من جيوش العالم، فكل الجيوش - بدرجات متفاوتة - تدير مشاريع اقتصادية ترتبط ارتباطاً وثيقاً ومباشراً باحتياجات القوات المسلحة، مع تفاوت هذه الاحتياجات من بلد لآخر وفق ظروفه الخاصة، ولا مشكلة فى ذلك ... لكن المشكلة تبدأ حين يتمنى الرئيس أن تحظى القوات المسلحة بنصف الناتج المحلى الإجمالى، وحين يصنف مشروعات القوات المسلحة باعتبارها جزءاً من القطاع العام، وحين يرى أن الجيش مسؤول عن جميع أنشطة الدولة الاقتصادية التى لها علاقة بحماية الأمن القومى المصرى !
لا أعرف من أى مدرسة من مدارس الفكر الاقتصادى يستقى الرئيس أفكاره، لكن المؤكد أن طموح الرئيس لأن يسيطر الجيش على 50% من الناتج المحلى الإجمالى، دون أن يرى فى هذا الطموح ضرراً، بل يراه فائدة كبرى، إنما يؤذن بخراب كامل للاقتصاد المصرى، بل ولقدرة مصر العسكرية، لأسباب كثيرة يدركها كل الاقتصاديين المحترفين الذين يعرفون كيف تعمل اقتصادات الدول المعاصرة، كما يعرفها كل العسكريين المحترفين الذين يعرفون ما الذى يمكن أن يفسد الجيوش ويصيبها بالهشاشة فى مواجهة الأخطار الخارجية !
دعونا أولاً نتعجب من وصف الرئيس لمشروعات القوات المسلحة بأنها قطاع عام، إذ لا أعرف لهذا التصنيف سنداً من منطق اقتصادى أو إدارى أو قانونى؛ فليس معنى أن هذه المشروعات لا تصنف ضمن مشروعات القطاع الخاص أن تكون بالضرورة تابعة للقطاع العام، فهى لا تتبع هذا ولا ذاك، وإنما هى تابعة للقطاع العسكرى لا المدنى، حتى وإن قامت بأنشطة اقتصادية مدنية بطبيعتها ! ... بهذه الصفة فإن هذه الأنشطة الاقتصادية لا تخضع للقوانين المنظمة ولا للقواعد والضوابط الإدارية ولا للحسابات الاقتصادية التى يخضع لها القطاع العام، فضلاً عن أن القطاع "العام" إنما ترتبط حساباته بحسابات الموازنة "العامة" للدولة، وهى ليست حالة المشروعات التى تتبع القوات المسلحة ! ... وأكتفى بهذا القدر حتى لا تتداعى الأسئلة التى قد تسئ إجاباتها لنا جميعاً، مدنيين وعسكريين، كما قد تسئ لبنية الدولة المصرية، مما كان يجب أن يتحاشاه الرئيس وهو يتحدث باستخفاف شديد عن أن "الجيش هو الدولة"، قبل أن يتراجع ويصفه بأنه جزء من الدولة، وأن مشاريعه هى "قطاع عام" !
أنتقل الآن لقضية الأمن القومى، وللحديث الفج عن أن الجيش قد تدخل فى هذه الصناعة أو تلك، أو فى هذه التجارة أو فى غيرها، بحجة أنها صناعة أو تجارة ترتبط بالأمن القومى، وكأن كل ما هو أمن قومى يكون من اختصاص الجيش، وهى فكرة فاسدة قد تدفع الدولة المصرية لمفاسد لا نهاية لها ! ... فالتعليم أمن قومى، والتاريخ أمن قومى، والإعلام أمن قومى، والثقافة أمن قومى، والبحث العلمى أمن قومى، والصحة أمن قومى .. والقائمة تطول، بل إن قوة المجتمع "المدنى" صارت فى عصرنا الحديث قضية أمن قومى، ولا أدرى كيف يمكن للجيش أن يكون مسؤولاً عن كل ذلك ما لم نكن قد اتخذنا قراراً بأن يحل الجيش محل الدولة، ومن ثم صرنا تجسيداً لحديث الرئيس العفوى الذى سرعان ما تراجع عنه من أن "الجيش هو الدولة" !
أعود فى النهاية إلى ما بدأنا به وهو حديث الرئيس عن أنه يتمنى أن يصل حجم النشاط الاقتصادى للجيش إلى 50% من الناتج المحلى الإجمالى، فحديثه الكارثى هذا يعنى أن الرجل لا يعى حقيقة الورم السرطانى الذى يستشرى فى بنية الاقتصاد القومى، مما لا يخطئ فى الشعور بآلامه رجل الشارع البسيط، ظناً من الرئيس بأن تدخل الجيش فى الصناعة والتجارة والزراعة، بل وفى نشاط التصدير والاستيراد، إنما يضبط أداء الاقتصاد القومى ! ... هذا التصور الساذج مرجعه أن الرئيس يعتقد أن ما يقوم به الجيش فى الحياة الاقتصادية إنما يكافئ ما يقوم به القطاع العام ولكن بانضباط يفتقر إليه القطاع العام !
أعلم يقيناً مشاكل القطاع العام، ولا أحتاج لأن يذكرنى بها أحد، لكن علاج هذه المشاكل لا يكون بكارثة تدخل الجيش كالورم السرطانى الذى ينتزع أسباب الحياة الصحية من باقى خلايا الاقتصاد القومى الذى هو اقتصاد "مدنى" بامتياز، ولا يعنينى بعد هذا إن كانت قاطرة هذا الاقتصاد "المدنى" هى القطاع الخاص أو القطاع العام الذى تخطط الحكومة لخصخصته، فكلا القطاعين على أية حال يحتاج إلى ضبط، لكنه الضبط عبر آليات تناسب الاقتصاد المدنى كما يقول بها الفكر المدنى الاقتصادى والسياسى والإدارى، لا كما يقول به فكر السيد الرئيس، وهو فكر معتل وغير منضبط أوصلنا لما أوصلنا إليه من مآس اقتصادية، ويؤسفنى القول بأنه لا ترجى من وراء هذا الفكر المعتل غير المنضبط أية نهضة اقتصادية، ولا أية نهضة أخرى على الإطلاق، لا فى المستقبل القريب ولا فى المستقبل البعيد !