ما شاهدناه في سورية وغيرها من مواقع، كالعراق وليبيا ويوغوسلافيا السابقة مثلاً، يدلّنا على اتساع ظاهرة الحروب من خلال المرتزقة أو من خلال الشركات الخاصة (بلاك ووتر الأميركية).
بل يتضح لنا في سورية تحديداً أن عدد المرتزقة الذين شاركوا في العمليات العسكرية، زاد في الكثير من المواقع عن تلك القوات الوطنية، بل إن معظم المقاتلين في بعض المواقع كانوا من المرتزقة. والقوات من المرتزقة لا تنحصر في النظام وحلفائه، بل شاهدناها في القوات العسكرية لـ «داعش» التي تتألّف أساساً من «أنصار» و «مُريدين» التحقوا بالفكرة وإغوائها من شرق الأرض ومغاربها.
يتضح من تقارير إخبارية ومخابراتية أن نحو 66 ميليشيات إيرانية عملت على الأرض السورية قوامها متطوعون ومرتزقة تحلّقوا كالطيور من نحو 60 جنسية عملت إيران ووكلاؤها على تجنيدهم والدفع لهم في أشكال مختلفة. بل اتضح وجود شبكات تجنيد عابرة للحدود والدول والقارات تلتقط الحاجة إلى مقاتلين وتعرف كيف تصل إلى هؤلاء الراغبين في وظيفة عسكرية تدرّ عليهم ما لا تستطيعه وظيفة مدنية في بلدهم أو في بلاد الهجرة التي يعيشون فيها. ويتضح من الأعداد الهائلة للمرتزقة أن الأمر هو في شأن سوق كأسواق السلاح يدخلها مَن يستطيع أن يدفع نقداً وبالعملة المطلوبة.
إن مراقبة ما حصل ويحصل في سورية يؤكّد وجود هذه السوق التي ازدهرت لأسباب عدة. ومن عوامل ازدهارها، سيولة في المقاتلين كما في سوق القوى العاملة، سرعة في نقل المعنيين من مرتزقة بفعل سرعة وسائط النقل الجوي وانفتاح الحدود. لكن الأهم من هذا وذاك، أي من وجود عرض وطلب كما في السوق، هو نشوء ظواهر كونية بفعل العولمة المتسارعة مثل تحويل الحرب والأخطار إلى سِلع تُباع وتُشترى وتُصدر وتستورد. فهنا طبقة واسعة من محترفي القتال والحرب من «ماكنات» بشرية مستعدة لأداء كل عمل حربي كما يؤدي الخبير الاقتصادي اللبناني مهماته في مصرف بريطاني! يبدو أنه تمّ تسليع الحروب والأزمات والصراعات إلى حدّ تنفيذها من خلال جيوش غير وطنية، بل من ألوية ووحدات قتالية مأجورة بالكامل. أو أن سيرورة الخصخصة التي تلفّ العالم كله لم تقفز عن الحروب التي تخصخصت هي أيضاً في إطار سيرورة كونية شاملة.
إن نشاط شركة بلاك ووتر الأميركية في العراق جسّد إلى أي مدى بلغت تجارة الحروب وسوق المحاربين المرتزقة أو المدفوعي الأجر. فلنتصور أن تدخّل دولة عُظمى كالولايات المتحدة في الحروب المقبلة في مواقع الصراعات والحروب ستتمّ من خلال جيوش خاصة أو شركات مقاولة للحروب! في الأمر إعفاء للدولة ومسؤوليها عن صور جثامين القتلى من الجنود تعود إلى أرض الوطن ملفوفة بأعلام الدولة ورموزها. وليس هذا فحسب، إذ يبدو أن هذا الترتيب الجديد للحروب والنزاعات قد يحوّل الحرب إلى أي نشاط اقتصادي لا يستدعي التفكير والدراسة إلا في ما يتصل بالربح والخسارة، أي بصرف النظر عن عدد القتلى وردود فعل الرأي العام وضغط أهالي القتلى من الجنود أو تحقيقات إعلامية ناقدة. هذه مسائل لن تدخل في حساب الحروبات بمقدار ما تدخل حسابات الربح والخسارة الاقتصاديين!
وهذا يعني في شقّه الأدهى أن مسألة الضحايا من المدنيين أو حجم الدمار أو الأضرار أو مدى العنف التدميري المستخدم - كلها مسائل ثانوية في حروب كهذه. ألم تبدُ لنا الحرب في سورية على هذه الشاكلة من العبثية في ما يتعلّق بحجم التدمير والتقتيل والمجازر وجرائم الحرب!
بمعنى أن الخروج إلى الحروب سيكون أسهل طالما أننا أكسبناها طبيعة اقتصادية، وهي ليست الأهداف الاقتصادية التي يُمكن أن تكون لكل حرب وطنية. قد يقول قائل: لكن الوضع في سورية كان مختلفاً، وأن سبب استقدام قوات غير وطنية أو التخلي عن الجيش الوطني جاء نتيجة تخلّف أبناء الوطن السوري بغالبيتهم عن الخدمة لاعتقادهم بأن النظام لم يعد شرعياً في نظرهم من اللحظة التي وجّه فيها بنادق قناصته ومدرعاته وصواريخه إلى صدور مواطنيه. هذا صحيح، في سورية، كعامل وراء استقدام المرتزقة، كما فعل القذافي في مواجهته شعبَه. ومع هذا، أرجح أن ما حصل هناك هو كجزء من سيرورة بيع أخطار الحروب في مستوى عدد القتلى من الجنود إلى جهات غير وطنية - إلى مرتزقة أو شركات مختصّة بالحرب والتزويد بالمقاتلين وبجيوش خاصة.
بلاك ووتر الأميركية نشأت وفق قانون أميركي خاص وخدمت لقاء المليارات في حماية مصالح الولايات المتحدة في العراق والمنطقة. وهي نوع جديد نسبياً من الشركات تطورت عن شركات الخدمات الأمنية المختصّة بالاستشارة العسكرية والاستراتيجيات القتالية والأمن المعلوماتي وعن تلك التي تاجرت بالسلاح ومنظومات أمنية متكاملة، ويبدو أنها نمت وتوسّعت ونوّعت خدماتها إلى حدود أنها صارت قادرة على خوض الحروب بدل الدولة المعنية!
في مثل هذه الحال، ستكون للحروب طبيعة أخرى تماماً تبعث على القلق. سيكون علينا أن نطوّر ميثاق شرف تجارياً للحروب- حقوق المستهلك وعقود الحروب، بدل معاهدة جنيف الرابعة ومعاهدة روما بخصوص المحكمة الجنائية الدولية! سيكون على خبراء القانون التجاري الدولي أن يجدوا طرقاً قانونية ونصوصاً للتعامل مع حالات بيع الهزائم أو الانتصارات، أيضاً.