"الفجر نايم وأهلك يا باريس صاحيين، معمرين الطريق داخلين على خارجين، ولسه حامد وعيشة واسماعين نايمين.. أنا المصري كريم العنصرين، بنيت المجد بين الأهرمين.. هبط الجنيه من قمّته والمليونير: ضج ولطم، أما الفقير قام واستجار ومن الهلع قلبه انخلع، بايت يفكر ليل نهار ليرتفع سعر السلع، واللحمة اهيه والخضار أسعارها حتسوق الدلع". كلمات كاتبها أشهر شعراء العامية بيرم التونسي، وهم من ثلاث قصائد شهيرة له، الأولى كانت بعد نفيه من مصر وسطرت أبياته اعجابه بنشاط الشعب الفرنسي، والثانية كانت ضمن أوبريت لمناهضة الاحتلال، أما الثالثة كانت بعنوان "الصنم" ليرثي الحال الذي وصل له الاقتصاد. بيرم التونسي، الذي لقب بـ"شاعر الشعب" لاحساسه بمعاناة الشعب المصري وأوجاعهم، عبر بكلماته وأشعاره عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بل والوطنية التي مرت بها مصر. تفجرت موهبة "بيرم التونسي" الذي ولد 23 مارس 1893، لعائلة تونسية كانت تعيش في مدينة الإسكندرية بحي السيالة، عندما فوجئ شاعرنا في أحد الأيام بالمجلس البلدي في الإسكندرية، وهو يحجز على بيته الجديد، ويطالبه بمبلغ كبير كعوائد عن سنوات لا يعلم عنها شيئًا. ليجد نفسه يعبر عن غضبه من هذا القرار بهدة الأبيات:
قد أوقعَ القلبَ في الأشجانِ والكَمَدِ
هوى حبيبٍ يُسَمّى المجلس البلدي
أمشي وأكتمُ أنفاسي مخافة َ أنْ
يعدّها عاملٌ للمجلسِ البلدي
ما شَرَّدَ النومَ عن جفني القريحِ سوى
طيف الخيالِ خيال المجلسِ البلدي
إذا الرغيفُ أتى ، فالنصف ُ آكُلُهُ
والنصفُ أتركُه للمجلس البلدي
وإنْ جلستُ فجَيْبِي لستُ أتركُهُ
خوفَ اللصوصِ وخوفَ المجلسِ البلدي
وما كسوتُ عيالي في الشتاءِ ولا
في الصيفِ إلاَّ كسوتُ المجلسَ البلدي
كَأنَّ أٌمّي بَلَّ اللهُ تُربتها
أوصَتْ فقالت : أخوك المجلس البلدي
أخشى الزواجَ إذا يوم الزفافِ أتى
أن يَنْبَرِي لعروسي المجلسُ البلدي وكانت تلك الأبيات هي أول ما كتب بيرم التونسي، لتتفجر بعدها عدة مواقف ويعلو صوت الشعر، وبدأ بيرم بعد هذه القصيدة الإتجاه للأدب؛ فترك التجارة واهتم بتأليف الشعر. واختار بيرم التونسي، الزجل ليقرب أفكاره إلي أذهان الغالبية العظمي من المصريين، خاصة وأن 95% منهم لا يقرأون، وكانت أزجاله الأولى مليئة بالدعابة والنقد الصريح الذي يستهدف العلاج السريع لعيوب المجتمع. "شهوزاد" هو اسم الأوبريت الذي ألفه بيرم التونسي للمطرب سيد درويش، ليُلهب الحماسة في نفوس المصريين ويمجدهم، ويدفعهم لمناهضة الاحتلال، وكان هذا العنوان إشارة إلى شهوات العائلة الحاكمة ولكن الرقابة منعت ذلك الاسم فعدلته إلى "شهرزاد".
أنا المصري كريم العنصرين
بنيت المجد بين الأهرمين
جدودي أنشأوا العلم العجيب
ومجري النيل في الوادي الخصيب
"البامية الملوكي والقرع السلطاني" القصيدة التي تسببت في إبعاد بيرم التونسي من مصر، ونفيه إلى وطن أجداده في تونس يوم 25 أغسطس عام 1920، بعد أن أغضبت الملك فؤاد. والناس قرون كنا نقول مأمأ.. ونأكل البرسيم بالقفة سلطان بلدنا مرته جابت .. ولد وقال سموه فاروق فاروق فارقنا بلا نيلة.. دى مصر مش عايزالها رذيلة البامية فى البستان تهز القرون.. وجنبها الفرع الملوكى اللطيف نازل يلعلط تحت برجة القمر.. ربك يبارك لك فى عمر الغلام ياخسارة بس الشهر مش تمام وعن الوضع الاقتصادي كتب بيرم التونسي" قصيدة "الصنم" ليرثي الحال الذي وصل له الاقتصاد المصري، وانحدار قيمة الجنيه، وارتفاع أسعار السلع، في الوقت الذي تقل فيه قيمة الإنسان.
ولم يعرف بيرم عندما كتب تلك القصيدة أنها ستعبر عن حال الأمة في تلك الأيام التي نمر بها، وكـأنه كتب قصيدة "الصنم" ليقول لنا إنه بيننا ولم يمت، وستظل قصائده صامدة عبر العصور، شاهدة على الأحداث التي تمر بها مصر.
هبط الجنيه من قمّته والمليونير: ضج ولطم
ولما تهبط ذمته الحزن ينساه والألم ولما تسقط حرمته يظن روحه محترم عنده الجنيهات كل شيء وكل شيء غيرها عدم
أما الفقير قام واستجار ومن الهلع قلبه انخلع بايت يفكر.. ليل نهار ليرتفع سعر السلع واللحمة اهيه والخضار أسعارها حتسوق الدلع ياما الجنيه رخّص رجال و غَلىَّ أسعار الغنم
دي جيفه منتنه صار ابن آدم عبدها فليسقط الصنم الجنيه اللي بتسجد له الأمم
"التونسي وكوكب الشرق"
كان لقائهما الأول عندما قابلت "أم كلثوم" ببيرم نهاية عام 1940، بعد عودته من المنفى، وكان صيته قد ذاع في تلك الفترة، وعرف الوسط الفني والأدبي قصته بما فيهم أم كلثوم، التي كانت تعرف ماضيه في الصحف وتأليف المسرحيات الغنائية، فطلبت من شيخ الملحنين الشيخ زكريا أحمد أن يعرفها على الزجال بيرم التونسي. "أنا وأنت" أول أغنية تشهد على التعاون بينهم، لتتبعها سلسلة أغاني للثلاثي "بيرم وزكريا أحمد وأم كلثوم". والتعاون بين شاعر العامية بيرم التونسي وكوكب الشرق أم كلثوم، أثمر "ثلاثين أغنية" ومن تلك الأغنيات "الحب كده"، "القلب يعشق كل جميل"، "أنا وأنت"، "هو صحيح الهوى غلاب"، "كل الأحبة"، "الأهات"، و"أنا في انتظارك".
مسيرة ممزوجة بالنضال والحب والأسى والغربة والحنين، لكنها توجت في النهاية بجائزة الدولة التقديرية، لمنحها له الرئيس جمال عبد الناصر عام 1960، ويبدو أن هذا العام سعيدًا على "بيرم التونسي" فحصل فيه الجنسية المصرية، وكأن الدنيا تصالحه قبل أن يتركها في 5 يناير 1961.