في سطور "من هو شارلي" شكك في عفوية التظاهرات التي نُظمت في فرنسا بعد الهجمات التي استهدفت مجلة "شارلي إيبدو" الساخرة، وأراد إيصال فكرة مفادها أن فرنسا التي خرجت إلى الشوارع في ذلك اليوم هي فرنسا المثقفون وأصحاب الدخل المرتفع والمتوسط وليس فرنسا الأحياء الفقيرة والأرياف والعمال البسطاء. هذا فحوى الكتاب الذي ألفه عالم الاجتماع الفرنسي الشهير ايمانويل تود، وترجمة للعربية الدكتور أنور مغيث، وصدر حديثًا عن المركز القومي للترجمة، ويشارك في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2017.
وسلط ايمانويل تود في كتابه "من هو شارلي: سوسيولوجيا أزمة دينية" الضوء على التظاهرات الشعبية التي نُظمت في 11 يناير 2015 بفرنسا عامة وباريس خاصة للتنديد بالهجمات التي استهدفت مجلة "شارلي إيبدو" الساخرة.
ويطرح الكتاب عدة تساؤلات أثارت جدلًا واسعًا، لأنه تنافى مع صدر في الواقع، حين سعت السلطات الفرنسية، وعلى رأسها الرئيس "فرانسوا هولاند" شخصيا ورئيس الحكومة "مانويل فالس"، إلى تسويق صورة هذه التظاهرات على أنها أكبر تظاهرات تشهدها فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مؤكدة على مدى التفاف الشعب الفرنسي بمختلف أطيافه وأديانه حول مبادئ الجمهورية والعدالة ورفض الإرهاب. ويرى إيمانويل تود، أن الطبقات المتوسطة تبدو اليوم بعيدة عن "حمل القيم الايجابية للأمة" فهى بالأساس طبقة انانية ومنطوية على ذاتها وذات مزاج قمعي، بل انها تخلت عن مبدأ المساواة، وهي في الغالب، قريبة من الاساس الكاثوليكى الفرنسى القديم اكثر من قربها من التراث العلماني، ويبدو أن هذه الطبقات هى فرنسا اليوم وليست فرنسا ذات التراث الثورى. وأوضح تود، في كتابه، أن في كل مجتمع من المجتمعات الغربية هناك شارلي نائم، فهناك دائما كتلة مسيطرة، طبقة وسطى مستفيدة من العولمة تجمع بين المتعلمين تعليما عاليا وكبار السن، مستعدة للدفاع عن امتيازاتها، وقبل ذلك عن ضميرها المستريح ضد المستبعدين أو العمال المستقرين أو ابناء المهاجرين. وتابع تود "فشارلي يحكم فى كل مكان دون أن يعرف أين يذهب، حيث تسللت كراهية الاجانب التى كانت بالامس من سمات الأوساط الشعبية إلى النصف الأعلى من البناء الاجتماعي". كما تحدث المؤلف عن الهيستريا المفرطة التى عاشتها فرنسا فى يناير 2015، حيث أثارت مجزرة محرري الصحيفة الساخرة "شارلي ابدو" رد فعل جماعى غير مسبوق فى فرنسا، وكانت وسائل الاعلام تنقل رسائل تتمثل فى ادانة الإرهاب والاحتفاء بالشخصية الرائعة للشعب الفرنسى وتقديس الحرية والجمهورية. وأضاف "أصبحت مجلة "شارلي ابدو" ورسومها الكاريكاتورية عن النبى محمد معبدًا مقدسًا، وأعلنت الحكومة عن دعم للمساعدة فى إصدار المجلة الأسبوعية، وسارت الجماهير التي استدعتها الحكومة فى مسيرة فى كافة انحاء فرنسا يحملون أقلام رصاص فى ايديهم رمزا لحرية الصحافة، يصفقون لقوات الأمن والقناصة الموجودين على أسطح المنازل، وشعار أنا شارلى اصبح مرسوما باحرف بيضاء على خلفية سوداء قد غزا الشاشات والشوارع وقوائم الطعام بالمطاعم. ويوضح المؤلف كيف ان هذا الحادث قد تبعه التطاول بصورة منهجية ومتكررة على النبى محمد وهو الشخصية المركزية لدى جماعة ضعيفة هناك يمارس ضدها تمييز ينبغى له أن يُعد تحريضًا على الكراهية الدينية والعرقية والعنصرية. ويضع المؤلف موضوعيته فى تفسير هذه القضية، قائلًا: "فالحقيقة أنه ليس على علم الاجتماع أن يزعم التمييز بين الخير والشر، ولكن يسعى الى مساعدة البشر على فهم المعنى العميق لاختياراتهم وافعالهم، واجبارهم على قبول القيم الخفية التى تقودهم لفعل هذا الاختيار الايديولوجى أو السياسي". ويضيف: "ما يقلقني اليوم ليس حفنة من المتطرفين والمختلين عقليا الذين يرتكبون هجمات إرهابية باسم الإسلام، بل الهستيريا التي أصابت المجتمع الفرنسي إلى درجة أصبحت الشرطة تستدعي أطفالا لا تتعدى أعمارهم 8 سنوات إلى مراكز الأمن". يختتم المؤلف كتابه بمنتهى الأسى "ظللت لوقت طويل مؤمنا ايمانا مطلقا بقدرة بلدى على استيعاب المهاجرين ذوى الأصول المختلفة ،ولكن علىّ ان أعترف بان الشك قد بدأ يساورنى منذ فترة،فمن المؤكد أن جيلى لن يرى هذا اليوم". وايمانويل تود، مؤرخ وعالم في الانثروبولوجيا، كتاباته دائما ما تنحاز لقيم الديمقراطية والمساواة وتوجه نقدا حادا للاحكام المسبقة والخطاب الاعلامى الشائع فى الغرب ،له مجموعة كبيرة من المؤلفات، منها "مصير المهاجرين"، و"لقاء الحضارات"، و"ما بعد الديمقراطية"، و"السر الفرنسي". وأنور مغيث، استاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، ومدير المركز القومى للترجمة، صدرت له مجموعة من الترجمات، منها:"نقد الحداثة"، و"فى علم الكتابة"، و"مسلمون ومسيحيون إخوة أمام الله"، و"كيف يدمر الأثرياء الكوكب"، و"كفى للطغمة ولتحيا الديمقراطية".