دعيت للمشاركة فى ورشة عمل بأحد المراكز الإستراتيجية الهامة، وكان موضوعها (التداعيات الإستراتيجية لمعركة الموصل ضد داعش)، وكان أحد محاور الورشة خاصاّ بمصير مقاتلى داعش بعد أن تنتهي المعركة بهزيمتهم المحققة مهما كان ثمن ذلك.
إذ مهما بلغت قوة التنظيم فإنه لن ييستطيع مواجهة قوى التحالف الجبارة، وبعد عرض الأوراق المقدمة للورشة كان التعليق التحليلى الرئيسى لتلك الورشة من قبل واحد من أكبر أساتذة العلوم السياسية فى مصر، وقد فوجئت فى ثنايا تحليله بأنه يتمنى ألا يخرج مقاتلاّ واحداّ منهم على قيد الحياة ، إذ من الواجب القضاء عليهم جميعاّ إنقاذاّ للبشرية من شرورهم.
وربما يرى البعض فى هذا الرأى وجاهة، على أساس أن هؤلاء يصعب إن لم يستحيل إصلاحهم، ودمجهم ضمن فئات الشعب (أى شعب)، ليصبحوا عامل إضافة وليس عامل خصم يشكل بعودته إلى بلاده قنبلة موقوتة تنام لفترة لكنها حتماّ ستنفجر فى وقت ما لتحصد أرواحاّ وتسيل دماءً.
لكن من يؤيد هذا الرأى ينسى أو يتناسى أمراّ هاماّ، وهو تداعيات ذلك على الفكرة نفسها، فكرة الجهاد، وماتعرض له الجهاديين من خلال تنفيذ أمنية أستاذ العلوم السياسية، ومايؤدى ذلك إلى تدعيم فكرة المظلومية ،على من بقى من هؤلاء وعلى أهالى وأحباء من قضى عليهم،وبالتالى فإن فكرة الإسلام الراديكالى الجهادى ستتدعم فى القلوب إنتظاراّ للفرصة المواتية للانطلاق من جديد وبمسميات جديدة.
وعادة ماتكون التنظيمات الجديدة أكثر تطرفاّ من تلك التنظيمات السابقة، والتى قضى عليها، وعودة لأحداث التاريخ كى نؤكد على مانقول، فى أواخر سبعينات القرن الماضى ، انطلقت الدعوات الإسلامية المدعومة حكومياّ بالتطوع من أجل إنقاذ أفغانستان، تلك الدولة الإسلامية من الإحتلال الإلحادى للإتحاد السوفييتى، وليس بخاف على أحد أن صاحب الدعوة إلى الجهاد لم تنطلق دعوته من غيرة على الإسلام وإنما لأغراض سياسية إنتهازية.
وتدفق الشباب على التطوع،ووعندما انتهت تلك الحرب بجلاء الإتحاد السوفييتى، إنتهت معها مهمة هؤلاء الشباب ، ولم يعد لهم أى ضرورة للبقاء فى أفغانستان، فعادوا إلى بلادهم لتستقبلهم حكوماتها والتى كانت قد شجعتهم فى السابق على التطوع ،بالزج بهم فى السجون، فقد رأت تلك الحكومات أن هؤلاء بفكرهم ومستوى تدريبهم باتوا يشكلون خطراّ على بلادهم ، من هنا وبعد خروجهم من السجون وجدوا أن أوطانهم لاتقبل بهم ، من هنا لم يكن لهم من مصير سوى العودة من جديد إلى أفغانستان ليشاركوا فى تأسيس تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن ،وهو التنظيم الذى أصبح أكثر تطرفاّ من تنظيم طالبان.
وباغتيال بن لادن تولى من بعده لواء زعامة التنظيم أيمن الظواهرى، والذى كان ضمن المسجونين فى السجون المصرية، وبعد أن ضعف هذا التنظيم نتيجة للضربات الأمريكية ، فقد إنبثق تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام ، والذى فاق التطرف والعنف تنظيم الدولة بمراحل، ولو تحققت أمنية أستاذ العلوم السياسية فإنه من المتوقع مستقبلاّ إنبثاق تنظيم أكثر تطرفاّ وعنفاّ من تنظيم الدولة الإسلامية(داعش).
إذن فإن القضاء المبرم على المنتمين لهذا التنظيم لن يقض عليهم ، بل سيكون مقدمة لمخاض جديد يسفر عن تنظيمات عنيفة ،فالتنظيم قائم على أفكار ، والأفكارالمنحرفه لاتواجه إلا بأفكارصائبة ،هذا أحد سيناريوهات هؤلاء ، أما السيناريو الآخر والمتوقع لمصيرهؤلاء المقاتلين ،هو أن يختفوا من العراق وسوريا وربما ليبيا واليمن وسيناء، ثم يظهرون فى أماكن أخرى فيما بعد ،وبالتالى يظل خطرهم قائماّ.
إذن فإن هناك ثلاثة احتمالات لمصير هؤلاء،إما الإبادة،أو العودة لبلادهم ،أوالذوبان الظاهرى فى المجتمعات إنتظاراّ للفرصة المواتية،ولاستحالة خيار الإبادة كما ذكرنا، ولخطورة خيار الذوبان الظاهرى، فإن خيار عودتهم لأوطانهم يعتبر الخيار الأكثر معقولية،مع ضرورة ألا يكون استقبال هؤلاء فى السجون لنكرر أحداث الماضى، حيث يعاملون جميعاّ كمجرمين، دون التفرقة بين من لوثت يداه بالدماء وبين من كان مخدوعاّ مغيباّ.
الأول يحاكم على ماارتكب، أما الثانى فيتم التعامل معه على أنه مريض يحتاج إلى علاج، وعملية العلاج هى بالأساس عملية تصحيح للمفاهيم المغلوطة المعششة فى ذهنه،ومن سيقوم بتلك العملية هو بالأساس من علماء الدين الإسلامى، وحتى تثمر عملية التصحيح تلك ،لابد أن يحظى المصحح (بكسر الحاء) بثقة من نسعى لتصحيح مفاهيمة، وهنا تبرز مشكلة أخرى حول فقدان تلك الثقة، فهؤلاء الشباب ينظرون إلى علماء الدين على أن كل منهم هوفى حقيقته (مفتى السلطان)، الذى يشرعن دينيا للحاكم وأى حاكم كافة قراراته، ولنذكر تاريخياّ إنشار الآية القرآنية الكريمة وعلى نطاق واسع على ألسنة علماء الدين (وأعدوا لهم مااستطعتم,,,)،وقت حالة الحرب مع إسرائيل أمافى الفترة الزمنية، التى واكبت قرار السادات بالبدء فى رحلة السلام(!!)، كانت الآية القرآنية التى انتشرت على ألسنة نفس العلماء هى(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)، لذلك فإن هؤلاء الشباب المطلوب تصحيح مفاهيمهم ،فى الأغلب سيتبنون فكرة التقية، ويتظاهرون بأنهم بدلوا أفكارهم فى حين أن (اللى فى القلب فى القلب).
والخلاصة أن مصير هؤلاء المقاتلين محاط بضبابية ، ورغم أن عودتهم إلى بلادهم هى أفضل الخيارات ،إلا أننا حتى اللحظة نرفض إلاأن يعاملوا جميعاّ كمجرمين يستحقون العقاب لا كمرضى يحتاجون إلى العلاج، وعلى الأقل بالنسبة لبعضهم.