مخاوف غربية أمريكية من التقارب التركي الروسي، الذي بات يتماسك يوما تلو الآخر، إلى أن استقوى سياسيا برعاية المفاوضات السورية بالأستانة عاصمة كازاخستان، وعسكريًا بتحالف درع الفرات شمالي سوريا.
فعلى مدى التاريخ يعتبر الغرب تركيا حائط الصد في وجه التمدد الروسي؛ فمنذ القدم تعتبر المضايق التركية "البوسفور والدردنيل"، بمثابة عنق الزجاجة بالنسبة لموسكو نحو العالم الخارجي، فلا يفصل تركيا عن روسيا إلا البحر الأسود.
الشواهد التاريخية على التحالف الاستراتيجي الذي يحرص عليه الغرب مع تركيا كثيرة؛ فمرورًا بالوقوف مع تركيا ضد روسيا في حروبها وأزماتها إلى التطبيع السياسي والاقتصادي والعسكري، كعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي "ناتو"، وهو الحلف الذي أنشأ في الأساس ردًا على توحد قوات الاتحاد السوفيتي في منطقة شرق أوروبا.
كانت آخر المحطات التي برهنت على قوة علاقة الغرب بتركيا، أزمة إسقاط المقاتلات الجوية التركية طائرة سوخوي الروسية في نوفمبر 2015، وما تبعها من ردود أفعال، فلم يغب حلف شمال الأطلسي "ناتو" عن المشهد فصرح أمينه العام ينس شتولتنبرج، "أنّ رواية تركيا عن اختراق الطائرة الروسية لمجالها الجوي تتطابق معلومات الناتو في هذا الخصوص"..
كما اتهم حلف الناتو، روسيا "بالسلوك غير المسؤول" موجهًا تحذيرًا شديد اللهجة لموسكو، قائلا إنها تثير "خطرًا شديدًا" بإرسالها طائرات حربية إلى أجواء بلد عضو في الحلف.
التقارب التركي الروسي الحاصل الآن، أثار مخاوف الغرب وحلف الناتو، الأمر الذي توقعه مراقبون باحتمالية صدام تركي غربي وشيك.
وفي يوليو وعلى خلفية الانقلاب العسكري الفاشل، انقلبت الأوضاع رأسًا على عقب، فيعتبر بوتين الرئيس الوحيد الذي أعلن وقوفه إلى جانب الحكومة التركية خلال محاولة الانقلاب، الفاشلة، بعكس الدول الغربية التي لم تبدِ أي تعاطف منها، كما اتهم أردوغان المخابرات الأمريكية بالتورط فيه، وزاد الطين بلة إصرار رفض إدارة أوباما تسليم فتح الله جولن لأنقرة، وهو المسؤول -بحسب الرواية الرسمية التركية- عن جميع أزمات الأتراك والعقل المدبر للانقلاب الفاشل.
صحيفة سلايت الناطقة بالفرنسية، أشارت إلى هذا التحول في تقرير لها أكدت فيه على أن العلاقات التركية الروسية تشهد تقاربًا كبيرًا، بغضّ النظر عن التوتر الذي هز العلاقات بين البلدين، فمؤشرات كبيرة تدلل على أن أردوغان قد غير من سياسته الخارجية ليتحالف مع الروس والإيرانيين، كبديل عن حلفائه التقليديين من دول حلف الناتو.
كما أرجعت الصحيفة تواصل الدعم التركي لبعض كتائب المعارضة المسلحة التي يمكن أن تكون شوكة في حلق بشار الأسد؛ مبينة على أن روسيا تنظر بعين الرضا إلى هذا الدعم لأنه يضفي شيئًا من الشرعية على المفاوضات التي تقودها، والتي تستوجب حضور طرفي النزاع. وأشارت الصحيفة إلى أن أنقرة ترى في هذا التحالف ضمانًا لعدم إعلان منطقة كردية مستقلة مشرفة على حدودها الجنوبية مع سوريا، لكنه في المقابل، ينبغي عليها أن تقبل فكرة بقاء بشار الأسد في الحكم.
وجاءت حادثة اغتيال السفير الروسي في أنقرة على يد شرطي تركي، لتؤكد على مدى التقارب بين البلدين، فوصف بوتين الحادثة، بأنها محاولة "لتخريب" العلاقات بين البلدين.
بينما أكدت أنقرة على أن اغتيال السفير الروسي لن يؤثر على علاقات "الصداقة" بين البلدين، مشددة على العمل لمحاسبة الجهات التي تقف خلفه.
التغيرات الجذرية فتحت باب التساؤلات حول موقف القوى الغربية من علاقة حليفتها التاريخية بالدولة الأكثر عداء لهم في العالم، وإلى متى ستغض الطرف عنها؟
الجنرال السابق في الاستخبارات الروسية "ألكسندر جيروف" قال في تصريحات صحفية لوكالة سبوتينج الروسية تطرق فيها إلى العلاقات الروسية التركية: إن أوروبا تسعى إلى إخافة تركيا من خلال استخدامها لتنظيم داعش الإرهابي، لافتا إلى أن تركيا تقرّبت في سياستها الخارجية من روسيا خلال الأشهر الأخيرة.
وأضاف الجنرال أن الغرب يحاول إعطاء تركيا رسائل باللعب على وتر داعش، مستفيدا في ذلك من محاولات التنظيم للانتقام والنيل من تركيا، وهذه الرسائل تتضمن سؤالا موجها لتركيا مفاده: أنتِ مع من؟..
وأكد جيروف أن الدولتين تقودان عمليات عسكرية مشتركة ضد تنظيم داعش الإرهابي في سوريا، موضحًا أن التنظيم يسعى إلى الانتقام من تركيا. وتابع "وبهذا الشكل يحاول الغرب من خلال تنظيم داعش إخافة تركيا التي تتبع سياسة ذات سيادة، وتبدي تقاربًا واضحا مع روسيا".
وأشاد الجنرال بمستوى العلاقات التي وصلت إليه كل من تركيا وروسيا فيما يخص الشأن السوري، لافتا إلى أهمية الدور الذي أدّاه الجانبان، للوصول إلى اتفاقية وقف نار شامل في عموم سوريا، مشددًا على أهمية نقل الملف إلى "أستانا" في حال نجاح وقف إطلاق النار، بغية إيجاد حل نهائي للأزمة السورية.
في السياق قال الدكتور محمد فراج أبو النور المحلل السياسي والخبير في الشأن الروسي، إنَّ القيادة التركية الروسية أدركت أن تحقيق مصالحهما متوقف بشكل كبير على مدى التعاون بين الإدارتين.
وأضاف في تصريح لـ"مصر العربية"، أن تركيا أيقنت أن الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة وحلف الناتو، لا يريدون إنهاء الصراع في سوريا كما أن هناك إشارات واضحة لتورطهما في دعم الإرهاب.
ولفت الخبير في الشأن الروسي إلى أن التعاون الروسي التركي أوقف بحد كبير المخطط الغربي لتقسيم شرق أوسط جديد.
وأشار فراج إلى أن روسيا كانت الدولة الوحيد التي أعلنت موقفها في الساعات الأولى من محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا، وهو ما لمسه أردوغان بعد ان أيقن أن لأمريكا يدًا فيه وهو ما صرح به مباشرة.
وأكد فراج على أن أمريكا تقوم بتسليح حزب العمال الكردستاني وتؤيد في العلن قيام كيان كردي وهو ما لن تقبله تركيا، كما أنّ روسيا لمست استقواء الأكراد بالولايات المتحدة.
ويرى فراج أنَّ مع وصول الرئيس الامريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض فإن العلاقات الروسية التركية لن تتأثر كثيرًا وستغض أمريكا الطرف عنها تحت قيادة رئيسها الجديد الذي يبدي تقاربا واضحا مع الجانب الروسي.
من جانبه قال الدكتور عبد المنعم المشاط الخبير في السياسية الدولية، إن تركيا علاقاتها مع الغرب تتأزم منذ وقت ليس بالقصير، عندما أوقف الاتحاد الأوروبي مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بعد انتظار عشرات السنين.
ويرى المشاط أن تطلعات أردوغان وتدخلاته لا تعجب الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الأوربية، خاصة أن تركيا بدأت في الفترة الأخيرة باتخاذ عدة قرارات لا تتوافق مع دوائر صنع القرار الغربية.
وأشار المشاط إلى أنّ سر التقارب الروسي التركي هو وجود تفاهمات قائمة على أرض صلبة، وإدراك الجانبين أن كلا منهم في حاجة الآخر.