برلمان الحجاز..!

أبو المعاطي السندوبي

...وستصبح تسمية "برلمان الحجاز" واجبة الإطلاق على البرلمان المصري، إذا أجازت أغلبيته تنازلَ رأس السلطة التنفيذية عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين لمملكة آل سعود.

 

وسيصعب بدءًا من موافقة البرلمان على التنازل فصاعدًا اتهام من يطلق عليه "برلمان الحجاز" بالسخرية، أو الحطّ من شأن السلطة التشريعية المصرية، بل ستكون تسميته الجديدة شرعية، بعدما تخلّى من تلقاء نفسه، وبمحض إرادته، عن كل مقومات تمثيله للشعب المصري ودفاعه عن أرض الوطن، وأصبح ممثلًا لشعب آخر غير شعبنا، ومدافعًا عن مصالح دولة أخرى غير دولتنا، وبالتالي غدًا يصبح- نظريًا وعمليًا- برلمانا ليس منا.. بل علينا!

 

وبالطبع لم يأتِ قرار إحالة مجلس الوزراء لاتفاقية تيران وصنافير إلى البرلمان، إلا بأوامر مباشرة من الرئيس، كمحاولة أخيرة للبحث عن "غطاء" شرعي لاتفاقيةٍ انخلعت عن الشرعية الدستورية، وأصبحت عارية تلهث بحثًا عن أي "ملتحف" يستر عورتها، أمام رأي عام  يزداد إصراره يومًا بعد يوم على مصرية الجزيرتين، خاصةً بعد أن عجز الرئيس وسلطته التنفيذية بكل أسلحتهم الإعلامية التضليلية ودعاتهم المرتزقة في الدفاع عن قراره بالتنازل عنهما للملك السعودي سلمان.

 

وجاءت دوافع الرئيس في دفع البرلمان "كساتر شرعي" للاتفاقية بهدف التهرُّب من مسؤوليته الدستورية كرئيس للبلاد مختبئًا وراء أسواره؛ حتى لا يظل وحيدًا في مرمى الاتهام بالتنازل عن أرض الوطن..

ومن جانب آخر يأتي إحالتها للبرلمان بمثابة رسالة شديدة اللهجة للمحكمة الإدارية العليا، بالتوقف فورًا عن إصدار حكمها النهائي بمصرية الجزيرتين- والذي سيكون حكما باتا لا يجوز الطعن عليه- والمحدد صدوره غدا الاثنين، تأكيدًا على حكم قضاتها السابق بذلك في الدرجة الأولى.

 

فاستمرار نظر القضية- هكذا يوحى لنا السيسي- يمثل تعديًا من السلطة القضائية على السلطة التشريعية التي لم تبدأ بعد مناقشة الاتفاقية مما يعد تدخلًا بين السلطات، وليس فصلًا بينها كما ينص الدستور.

 

وبناءً عليه قصد الرئيس بإحالتها للبرلمان وقف حكمها النهائي، حتى لا يتهم في ساحة القضاء بالتفريط في أرض الوطن وبالتالي يفتح الباب واسعًا باتهامه بجريمة الخيانة العظمى في الساحات السياسية..

 

ولكل هذا جاء جرّ البرلمان إلى ساحة الصراع، كإعلان رسمي وعلني من الرئيس بتدشين تحالف بين السلطة التنفيذية والتشريعية لتمرير الاتفاقية في مواجهةِ تجمُّعٍ وُلِدَ مصادفةً، بين رأي عام طالبَ بمصرية الجزر، وقضاءٍ أكّد في حكمه الابتدائي على صحة مصريتها متهمًا الرئيس بطريق غير مباشر بانتهاك الدستور.

 

وهكذا انتقلنا إلى حالة من الاستقطاب الحاد بين سلطات الدولة ذاتها، في مواجهة بعضها البعض؛ فالسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية أصبحت في مواجهة مع السلطة القضائية حول من له الحق في أن يقرر مصرية الجزر من عدمه؟  ومن جانب آخر يشتد الاستقطاب بين رأي عام يدعم السلطة القضائية بحسم مصرية الجزر على نحو نهائي، في مواجهة سلطة تنفيذية وتشريعية تنوي التنازل عنها لآل سعود.

 

وفي إطار هذا الصراع المعلن أحيانًا والمسكوت عنه كثيرًا، يسعى كل طرف وبكل السبل، تسييد وجهة نظره حول مصرية أو عدم مصرية الجزيرتين، باعتبارها أصبحت قضية محورية، لن تحدد فقط مستقبل الجزيرتين، بل مصير شرعية السلطات الثلاث بالدولة ذاتها، وعلى الأخص شرعية رأس الدولة الذي يبارك التنازل عن أرض الوطن، ومعه شرعية البرلمان الذى فصله تفصيلًا لتنفيذ سياسته، حتى لو تعارضت مع الدستور.

 

فهدف الرئيس الآن أمام الاتهامات الموجّهة له بالتنازل عن تيران وصنافير، هو إظهار أنَّ البرلمان الذي "يمثل" الشعب هو الذي سيوافق على التنازل، وليس هو وحكومته، وبالتالي فإنَّ المعارضين للتنازل عن الجزيرين هم أعداء" للإرادة الشعبية" الممثلة في البرلمان، وعليه فإنَّ معارضتهم لا  شرعية لها، مما سيوفّر للرئيس  بالتالي غطاءً شرعيًا لإسكات المعارضين بكل سبل القمع، باعتبارهم خارجين عن القانون، يستهدفون إسقاط الدولة وهدم مؤسساتها مثلهم مثل الإخوان المسلمين..

 

 

ومن جانب آخر يريد الرئيس وقف القضاء عن البتّ في قضية التنازل عن الجزيرتين كبداية لإعادة السلطة القضائية مرة أخرى إلى حظيرة السلطة التنفيذية، كتابعةٍ لها مثلما صارت الأمور بينهما منذ 30 يونيو 2013 ، باعتبارها أداة سياسية لمواجهة مناوئي الرئيس بأحكام تستند ظاهريًا إلى القانون؛ ولهذا اراد الرئيس أن يتم محو خطيئة حكم القضاء ضد إرادته بالتنازل عن الجزيرتين باعتبار قراراته لا يجوز نقضها في ساحات المحاكم .

 

وهكذا خرجت قضية تيران وصنافير عن حَيّزها الطبيعي؛ ليتسع نطاقها وتتفاقم تداعياتها على نحو مطرد، مهددة النظام كله في شرعية وجوده بدءًا من الرئيس ونهاية بشرعية السلطات الثلاث جميعًا...

 

فأمامهم الآن تساؤل  لم يُثَر في تاريخ مصر المعاصر.. وهو هل التنازل عن أرض الوطن عمل شرعي أم غير شرعي؟! وبالفعل أجاب القضاء على ذلك في حكمه الابتدائي بعدم شرعية التنازل، ومعه أغلبية الرأي العام...

 

بينما على الجانب الآخر، يصرّ الرئيس، ومعه السلطة التنفيذية بكاملها، على أن التنازل شرعي.. وهنا لم يبق إلا البرلمان ليحسم الأمر على نحو نهائي، فهل سيرفض التنازل كبرلمان مصري، أم سيضفي الشرعية على التنازل.. وفي هذه الحالة سيصبح فعلًا وليس ادعاءً برلمان الحجاز..!

 

مقالات متعلقة