في الذكرى السادسة للثورة التونسية...

الثورة التونسية

ما زالت ذكرى الثورة التونسية (14/01) تؤجّج سنوياً الجدل بين التونسيين، وغيرهم أيضاً، حول قضايا عدة ومعقدة، بعضها يتصل بخفايا هذه الثورة وألغازها، وقد ظلت جزئياً معتمة إلى اليوم، بما فتح المجال للتخمينات ولنظريات المؤامرة بمختلف أصنافها، وبعضها الآخر يتصل بتقييم مكاسبها وإنجازاتها، وهل غيرت واقع الشعب أم تركته على حاله، وهل تقدمت بالبلاد أم زادتها تكبيلاً؟

ومن الواضح أن التونسيين باتوا منقسمين قسمين كبيرين، قسم يشعر بأنه تضرّر من أحداث السنوات الأخيرة: فهو يعارض الثورة أو يدافع عن أطروحة انحرافها. وقسم استفاد منها: فهو يدين لها بما حصّله من منافع. ولو أننا فصّلنا مكونات القسمين لوجدنا في كليهما خليطاً عجيباً لا جامع بين أجزائه. فالمتضررون هم المتنفذون في النظام البائد لكنهم أيضاً رجال الأعمال الجديون والكفاءات التي أصبحت مهمشة في ظل مناخ الشعبوية السائد، والمستفيدون هم المناضلون السياسيون والحقوقيون سابقاً، لكنهم أيضاً «بارونات» المافيات والتجارة الموازية الذين أضحوا يسيطرون على نصف الاقتصاد الوطني.

من المؤكد، مع ذلك، أن حدث الثورة في ذاته فرض نفسه على الجميع. وموضوعياً، يمكن القول إن ثورة 2011 حققت في المجال السياسي مكاسب لا تنكر، إذ فتحت هامشاً كبيراً للحريات الفردية، وسمحت بتعددية حزبية حقيقية، وشجعت تطور الجمعيات وقيام مجتمع مدني ناشط، وشهدت تنظيم عمليتين انتخابيتين مهمتين انتهتا بانتقال سلمي للسلطة بين خصوم سياسيين. وتعرضت تونس على مدى السنوات الماضية لهزات وأزمات عدة نجحت في تجاوزها بفضل سياسة الوفاق.

لكن هذه المكاسب السياسية لم تترجم حتى الآن إلى فوائد اقتصادية واجتماعية يجنيها الناس العاديون، أي العاطلين من العمل الذين ظلت أعدادهم مرتفعة، وسكان المناطق البائسة الذين لا يشعرون بتغير ذي بال في أوضاعهم، والباحثين عن فرص الاستثمار والإبداع الذين يواجهون جموداً محبطاً في كل المستويات.

وثمة أخطار أخرى أكثر تأثـــيراً ًعلى المدى البعيد، مثل انهيار التعليم بسبب الفشل التام لبرامج إصلاحه بعد الثورة، بحيث أصبح شبان المدارس رهينة صراعات سياسية بين الوزارة والنقابة العمالية، لا سيما أن هذه الأجيال هي التي ستتحمل مستقبلاً أعباء الديون الخارجية التي تراكمت على مدى السنوات الأخيرة.

وهذه المفارقة بين النجاح النسبي في المستوى السياسي والتعثر المتواصل في المستوى الاجتماعي والاقتصادي تعكس إلى حدّ كبير حدود منهج التوافق، على أهميته، من حيث هو منهج مسكّن للأزمات لكنه غير قادر على رسم برامج استراتيجية للمستقبل. والطبقة السياسية الحالية التي تمثل التوافق بين مسارات وتيارات متعددة، نجحت في ضمان السلم الاجتماعية، لكنها تبدو غير قادرة على الحسم في الخيارات المقبلة، مرجعها دستور كتب بدوره على أساس التوافق ويمكن أن يؤوّل بأكثر من تأويل.

ولقد استطاع الرئيس الحالي الباجي القائد السبسي أن يجسّد في شخصه فضائل الوفاق ومساوئه في الآن ذاته. فهذا الرفيق التاريخي للزعيم بورقيبة، المتحدر من أسرة عريقة كانت تعمل في وزارات الدولة منذ عهد البايات، حقّق النجاح مرة أولى في منصب رئيس الوزراء الموقت بالإشراف على أوّل انتخابات ديموقراطية سنة 2011، ثم مرة ثانية في منصب رئيس الدولة بفرض حكومة وفاق وطني تضمّ أطيافاً سياسية عدة، منها «النداء» و «النهضة»، ولم يكن كثيرون يراهنون على نجاحه الأول ولا الثاني، ولولاهما لما نجحت تجربة الانتقال الديموقراطي في تونس.

بيد أنه في المقابل لم ينجح في تكوين حزب سياسي حقيقي يمكن أن يعدّل المشهد السياسي، ولا أن يحيط نفسه بكفاءات حقيقية غير أبواق الدعاية السياسية والمتعودين على خدمة السلطة أياً كانت. وهو إلى ذلك جعل شخصه محور السلطة ومركز اتخاذ القرار، وعليه تدور كلّ المبادرات والتوافقات، مع أنه يبلغ حالياً التسعين من عمره. لقد جعلته خبرته السياسية متفوقاً على الجميع، يهرعون إليه في كل الملمات، محلياً بل إقليمياً أيضاً، لكن الأمر لا يمكن أن يتواصل على هذا النحو من دون نهاية.

لا بدّ أن تكون سنة 2017 سنة الانتقال إلى منطق المؤسسات، تحسّباً للمستقبل، وتجسيداً للمسار الديموقراطي. فالبعض من المؤسسات لم يرَ النور بعد، على غرار المحكمة الدستورية والمجالس المحلية والبلديات المنتخبة، والبعض الآخر موجود لكنه يعمل خارج الجوقة من دون تنسيق مع مؤسسات الدولة الأخرى. وباعتبار أن كل حكم ديموقراطي يقوم على أحزاب سياسية جماهيرية وفاعلة، فإن منطق المؤسسات يفترض ايضاً الانتقال من أحزاب الزعامات الموجودة حاليا إلى أحزاب حقيقية قائمة على الكفاءة والشفافية.

ليس من الصحيح توصيف الوضع التونسي بأنه نجاح في السياسة وتعثر في الاقتصاد، فالحقيقة أنّ الجانب الثاني هو نتيجة من نتائج صنف النجاح السياسي الحاصل، وقد ظلّ مرتبطاً بالزعامات وخاضعاً لمنطق التوافقات الحينية. وهذا وضع لا يشجع المبادرة والاستثمار على المدى البعيد. فالدعوة إلى تكريس منطق المؤسسات هي أيضاً دعوة إلى فتح الطريق للاقلاع الاقتصادي الذي طال انتظاره، والتلازم بين الأمرين يبدو مؤكداً اليوم أكثر من أي وقت مضى، على الأقل بالنظر إلى الأعمار المتقدمة لكل الزعامات المؤثرة في المشهد الحالي، حكماً ومعارضة.

 

نقلا عن الحياة

مقالات متعلقة