يناير والمؤامرة

الكاتب الصحفي عبدالله السناوي

لا تنشأ ثورة بمؤامرة ولا تستقيم حقيقة بالادعاء.

نسبة «يناير» إلى مؤامرة هو نفى بالتدليس لأسبابها.

فى سنواته الأخيرة لم يكن أحد فى مصر، أو خارجها، يعتقد أن بوسع نظام «حسنى مبارك» البقاء.

تآكلت شرعيته بانسداد القنوات الاجتماعية وتفشى الفساد وزواج السلطة بالثروة.

كما تآكلت شرعيته بانسداد القنوات السياسية ووصاية الأمن على الحياة العامة.

الفوضى ضربت البنية الداخلية للنظام وأفضى مشروع التوريث إلى استقطاب كل الغضب.

عندما أغلق أى أمل فى الإصلاح من الداخل، بعد التزوير الفاحش للانتخابات النيابية خريف (٢٠١٠)، بدأ العد التنازلى الذى لم يطل.

لم يكن هناك شك أن النظام انتهى، والباقى تفاصيل.

نسبة «يناير» إلى مؤامرة هو بذاته مؤامرة على الذاكرة العامة والمستقبل كله.

فلا مستقبل لبلد ينكر تاريخه وتضحياته والأحلام التى حلقت فى الميادين.

ونفى الإرادة الشعبية، التى ثارت، إنكار لطلب التغيير والالتحاق بالعصر.

بقدر عمق الحدث التاريخى فى بنية مجتمعه يستحيل الموت الإكلينيكى لـ«يناير» مهما بالغت الحملات ووصل التشهير مداه.

الحقائق الكبرى لا تنسحب من التاريخ.

قد يطفئ بريقها لكن أثرها يظل كامنا.

بأثر تجربة «يناير» تغير المصريون والعودة إلى الوراء مستحيلة.

لم تكن «يناير» أول ثورة فى التاريخ تختطف جوائزها ويجهض فعلها.

ولا كانت أول ثورة يعود الماضى بعدها إلى صدارة المسرح الذى طرد من فوقه.

الثورة الفرنسية تعرضت لتجربة مماثلة قبل أن تعلن انتصارها النهائى لكامل أهدافها.

رغم عنفها المفرط، والمشانق التى نصبت، فقد أجهضت وعاد ملوك البوربون إلى حكم فرنسا.

بحسب التعبير التاريخى الشائع فإنهم «لم يتعلموا ولم ينسوا ولم يغفروا».

فى طلب الثأر من «يناير» اختلطت الأوراق، فالثورة أية ثورة لا تلخصها جماعة بعينها ولا وجوه بذاتها.

قوة الثورات فى مدى تعبيرها عن إرادة مجتمعها.

لم تكن الثورة مؤامرة، وإلا فإنه نفى للإرادة العامة واستخفاف بها وتجهيل بأسباب سقوط نظام «مبارك».

لا يعقل أن يستجيب عشرات الملايين لمؤامرة فى الظلام.

لكن بطبيعة الحال فهناك من حاول توظيف الأجواء التى صاحبت الثورة لمقتضى مصالحه.

كانت أكثر الترجيحات قبل «يناير» أن مصر مقبلة على حريق قاهرة جديد، كالذى حدث فى (٢٦) يناير (١٩٥٢)، أو ثورة جياع، أو فوضى عارمة يعقبها تدخل من مؤسسات القوى، كما توقع رئيس الوزراء الإيطالى الأسبق «رومانو برودى» أثناء زيارة للقاهرة أواخر سنوات «مبارك».

لم يتوقع أحد ثورة مدنية بمظهر حديث تتقدمها الأجيال الجديدة وتستقطب المجتمع وراءها طلبا للانتقال من نظام إلى آخر.

كانت تلك واحدة من معجزات الشعب المصرى فى التاريخ.

فى الأيام الأولى من «يناير» أخرجت مصر أفضل ما فيها، وأبهر ذلك العالم الذى وقف مشدوها أمام مشاهد ميدان التحرير.

غير أنه سرعان ما بدأت تخرج من جوف المجتمع، الذى جرفت حيويته بسبب سياسات النظام السابق، أسوأ ما فيه من فرز على الهوية الدينية.

لم يكن ذلك مسئولية الثورة، فقد أفرج عن متهمين بالإرهاب، وسمح لآخرين تطاردهم التهمة نفسها بالعودة دون تحسب.

ولم يكن «المجلس العسكرى»، الذى آلت إليه قيادة البلاد، يمتلك الكفاءة السياسية اللازمة لإدارة ملفات الانتقال والتحول بأقل كلفة ممكنة.

بتعجل غير مفهوم جرى الاستفتاء على بعض مواد دستور (١٩٧١) فى (١٩) مارس دون أى مقتضى.

وكان التعجل بذاته داعيا إلى تفكيك بنية الثورة الوليدة، وارتفاع منسوب التسمم العام بالفرز الطائفى الذى شاب الاستفتاء، رغم أن ما استفتى عليه لم يكن له صلة بالأديان.

ثم جرت انتخابات نيابية قبل وضع دستور جديد وبعد التلاعب بجماعات الشباب، التى انقسمت على نفسها بفداحة.

أسس ذلك لصدامات وشكوك وريب مبكرة أفضت إلى الاختطاف الأول للثورة من جماعة كانت آخر من دخل ميدان التحرير وأول من غادره.

ثم جرى الاختطاف الثانى للثورة من جماعات الماضى بعد أن أخفقت الجماعة فى الحكم واستنفرت غضب مجتمعها.

لم تكن لثورة «يناير» قيادة معترف بها ومؤهلة، ومن تلك الثغرة تاهت الخطى.

ولا كانت هناك مبادئ تحكم الحركة العامة، ومن فقر الأفكار اختطفت الثورة.

هناك فارق بين الأهداف والمبادئ.

الأولى، شعارات عامة تلهم لكنها لا تقود.. والثانية، رؤى فكرية تؤسس لبرامج وخطط وأولويات.

فى ضباب الأفكار أمكن لكل اللاعبين أن يرددوا العبارات نفسها عن «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية»، دون يكونوا متفقين على أى شىء يعتد به فى صناعة المستقبل.

ولا يعنى اهتمام العالم بما كان يحدث فى مصر مؤامرة، وإن كان هناك من تآمر لإجهاض الثورة.

لم تكن مصادفة أن يظل مجلس الأمن القومى الأمريكى فى حالة انعقاد دائم فى الأيام الأولى من «يناير».

ولا كانت مصادفة أن يتدفق للقاهرة مراسلون صحفيون وباحثون ودبلوماسيون ورجال استخبارات من جميع أرجاء العالم، فمصر دولة مهمة لا يمكن تجاهلها ولا تقليل أهمية ما يحدث فيها على معادلات المصالح والنفوذ فى الإقليم كله.

ولا كانت مصادفة أخرى الضغوط التى مورست على «المجلس العسكرى» لإفساح المجال أمام جماعة الإخوان، الأكثر تنظيما، للإمساك بمقاليد الأمور.

هذه مصالح ورؤى وتصورات لإدارة الملفات الإقليمية رهانا على «الإسلام المعتدل» لوقف تقدم «الجماعات المتشددة»، وهو رهان ثبت فشله بالتجربة العملية.

بنظرية «المؤامرة» فإن الولايات المتحدة والمجلس العسكرى وجماعة الإخوان تقاسموا الأدوار لإجهاض الثورة.

باليقين ــ أولا ــ هناك من تآمر، لكن الثورة ليست مؤامرة.

وباليقين ــ ثانيا ــ فإن بعض الذين يتحدثون اليوم عن مؤامرة هم بعض الضالعين فيها لإفقاد المصريين ثقتهم فى أنفسهم وفى قدرتهم على التغيير.

وباليقين ــ ثالثا ــ فإن الإنجاز الوحيد، المادى والملموس، للثورة بكل موجاتها هو «الدستور».

بقوانين السياسة فإن الثورات ليست خالدة.

وبنفس القوانين فإنها لا تغادر المسارح السياسية قبل أن تستقر أهدافها فى قواعد، أو دساتير.

هكذا يجرى دائما الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية.

من اللافت أن الذين يطالبون بتعديل الدستور، ولا يحترمون أحكامه، هم أنفسهم الذين يعتبرون يناير «مؤامرة».

وذلك موضوع صراع على المستقبل، فعندما يتوقف الانتقال من شرعية ثورية إلى شرعية دستورية فإن أحدا لا يستطيع أن يعول على استقرار، أو أمن، أو تجاوز للأزمات المتفاقمة، أو تطلع لدولة مدنية ديموقراطية حديثة.

بتلخيص آخر فإن شرعية «يناير» هى نفسها الشرعية الدستورية والكلمة الفصل فى نهاية المطاف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

نقلا عن جريدة الشروق

مقالات متعلقة