"الالتصاق بالسيسي.. في ظل القمع بمصر.. لا يوجد إلا القليل من البدائل".
هكذا عنون الباحث الأمريكي إريك تراجر مقالا بمجلة فورين أفيرز يرصد الأوضاع في مصر بعد مرور 6 سنوات من ثورة يناير.
وإلى النص الكامل
قبل 6 سنوات، نزل مئات الآلاف من المصريين إلى ميدان التحرير مطالبين بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
وبعد 18 يوما استطاع المحتجون إنهاء ثلاثة عقود من حكم حسني مبارك.
أي تفاؤل لاحق بشأن الربيع العربي كان قصير الحياة، ومع ذلك، وبكافة المعايير، فإن المشكلات التي ولدتها الانتفاضة أصبحت أكبر اليوم.
القمع الذي تمارسه الحكومة المصرية الحالية على مناهضيها أكبر نطاقا وأكثر وحشية، وارتفع معدل البطالة بين الشباب، وأصبح الاقتصاد في حالة كئيبة، وتنامى الإحساس بأن تلك الدولة ضلت طريقها.
ومع ذلك، بالرغم من هذا الإحباط المتصاعد، لكن الرئيس عبد الفتاح السيسي "واثق جدا"، وفقا لما أخبرني به مسؤول بارز.
وأضاف المسؤول: "السيسي يرتبط بعلاقات جيدة مع الشعب ويدرك أنه يوليه ثقته".
ثقة السيسي نابعة من الهدوء النسبي الذي أعقب قرار البنك المركزي في نوفمبر بتعويم العملة المصرية، والذي خفض من نصف قيمة الجنيه، وساعد على زيادة الأسعار.
بعض المسؤولين المصريين حذروا من مغبة تلك الخطوة، خشية أن تثير احتجاجات حاشدة على غرار انتفاضة الخبز التي استمرت يومين في يناير 1977 وهزت نظام أنور السادات بعد تخفيضه دعوم الخبز.
لكن السيسي لم يكن لديه إلا القليل من الخيارات. ففي خريف 2016، أدى انخفاض الاحتياطي النقدي إلى نقص في سلع رئيسية، وشعرت الحكومة أنها لم تعد تمتلك أي خيار إلا أن تتخذ قرارا.
وأردف المسؤول: "إما كان الأمر سيسير على ما كان عليه مع التركيز على شعبية السيسي، أو ننظر للمستقبل ونضع الاقتصاد في الطريق الصحيح، ونتعامل مع العواقب".
تخفيض العملة الذي أعقبه خفضا لدعوم الطاقة، وتوقيع قرض صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار، تلقت مصر منه 2.75 مليار دولار في الحال تسببا في تحسين توقعات الاقتصاد الكلي.
السوق السوداء للعملة سرعان ما تعرضت للجفاف، وتزايد فيض العملة الأجنبية التي تصب في البنك المركزي.
وزاد الاحتياطي الأجنبي من 19 مليار دولار في نهاية أكتوبر إلى ما يزيد عن 24 مليار دولار، وتصاعد مؤشر سعر الصرف بنسبة تناهز 50 %.
ونتيجة لذلك، انتقل التفاؤل الممزوج بالحذر داخل أوصال البعض في مجتمع البيزنس من إمكانية حدوث تدفق مستقبلي ملحوظ للاستثمارات الأجنبية.
وقال لي رجل أعمال: "تعويم الجنيه سهل الأمور بالنسبي لي وزملائي بشأن التخطيط لنفقات العام الجديد"
بيد أن العديد من العقبات التي تعرقل النمو المستدام ما زالت كائنة، مثل الروتين الذي يصعب من مهمة المستثمرين الأجانب للدخول إلى السوق المصرية، والمخاوف الأمنية المستمرة التي أحبطت السياحة.
وأخبرني مسؤول بارز آخر: "عودة الاستثمارات المباشرة والسياحة أحد التحديات الصعبة، لكننا سنرى في 6 شهور كيف ستسير الأمور".
ورغم ذلك، فإن التأثير قصير المدى لقرار تعويم العملة بالنسبة لمعظم المصريين مؤلم، حيث ارتفعت أسعار السلع الأساسية بشكل كبير، لأسباب من بينها أن مصر تعتمد بشكل كبير على الاستيراد.
ووفقا لصحيفة المصري اليوم، فإن أسعار الماشية الحية والسكر ارتفعت بمقدار النصف، وزاد سعر زيت الزيتون إلى ضعف ما كان عليه.
وفي الأسكندرية والفيوم اللتين زرتهما في ديسمبر، تحدث أصحاب المحلات عن خسائر 40 % أو أكثر، وحتى في أكثر المناطق ذات الكثافة العالية، لم يكن هنالك إلا عدد قليل من الزبائن.
أحد النشطاء في الفيوم قال "الناس يعانون أكثر من قدر احتمالهم".
ومع ذلك في الوقت الحالي، يتحمل المصريون، رغم عدم سعادتهم أو ارتياحهم، ولكنهم بالتأكيد لديهم درجة من الصبر تجاوزت توقعات الكثيرين في بلد كانت تشهد حشودا منتظمة منذ سنوات قليلة.
وإلى حد ما، فإن هدوء مصر النسبي، وربما المؤقت يعكس الملمحين الأكثر بروزا في السياسة المصرية منذ 3 يوليو 2013، عندما استجاب السيسي للاحتجاجات الحاشدة عبر إقصاء أول رئيس منتخب، القائد الإخواني محمد مرسي.
الملمح الأول، وجود نفور قوي تجاه الإخوان المسلمين، الجماعة الذي تسبب ميلها لاستغلال الاحتجاجات لمصالحها الضيقة في عرقلة الآخرين من تنظيم أو الانضمام للمظاهرات.
بعض النشطاء ذكروا مثلا أن دعوات"الثورة من أجل الفقراء" في 11 نوفمبر الماضي خفتت بمجرد إعلان الإخوان المسلمين دعمها لها.
وبالرغم من أن جماعة الإخوان واجهت قمعا ملحوظا منذ الإطاحة مرسي، ولم تعد مرئية إلا بالكاد لكنها تبقى قوة استقطاب عميقة داخل مصر، جراء العام الفاشل لمرسي في الرئاسة الذي اتسم بالانقسام.
وأخبرني ناشط: "ما زالت الإخوان المسلمين ذات تأثير سام، عندما ترى الناس تحاول الاحتشاد، تأتي بيانات الجماعة لتخمدها".
الملمح الثاني مفاده أنه بالرغم من أن الهوس بالسيسي الذي أعقب عزل مرسي بات ذكرى بعيدة، لكن الرئيس الحالي يبقى الشخصية السياسية الأكثر شعبية في مصر.
وقال لي مؤيد سابق بارز للسيسي: "لقد انخفضت شعبيته من 90 إلى 60 %، وما زال يتمتع بتأييد الأغلبية".
وحتى لو كانت هذه الأرقام مبالغ فيها (من المستحيل معرفة ذلك لأن وزارة الداخلية حذرت المواطنين من الإجابة على استطلاعات الرأي من مؤسسات إعلامية أجنبية)، لكن لا توجد ببساطة أي شخصية سياسية أخرى تظهر بشكل واضح.
وعلاوة على ذلك، ليست هنالك أي خلافات محسوسة بين السيسي والجيش، الذي زاد من نطاق قوته الاقتصادية بشكل معتبر في فترة الرئيس الحالي.
الأحد الماضي على سبيل المثال، أعلن الجيش دخوله صناعة جديدة من خلال حصوله على رخصة لتأسيس شركة أدوية.
ونتيجة لذلك، يعتقد الكثيرون إن الجيش سيدعم السيسي بقوة في أزمته.
أحد رجال الأعمال أخبرني: "الأمر لا زال كما هو: الجيش ضد الإخوان المسلمين، لا يوجد خيار ثالث".
وبالطبع فإن غياب أي خيار ثالث أمر تم تصميمه، فالحكومة تعمل بلا كلل، وغالبا بوحشية، لمنع تجدد أي اضطرابات سياسية.
وسائل التواصل الاجتماعي تمت مراقبتها بشكل محكم، وهؤلاء الذين يكتبون بسلبية عن السيسي يخاطرون باستدعائهم للاستجواب.
العديد من الأشخاص يعتقدون كذلك أن الحكومة تسجل محادثاتهم الهاتفية الخاصة، لذلك فإن الذين أجرى معهم مقابلات يضعون هواتفهم داخل صناديق أو حقائب لإخماد الميكروفون.
وفي أحد المرات، وضع أحدهم آلة بيضاء للتشويش على الصوت.
السلطات تتحرك بشكل سريع جدا لإلقاء القبض على أي شخص يبدو أنه يخطط لاحتجاجات.
برلماني سابق ذكر لي أن "القمع شامل جدا لدرجة تذكرني بحقبة عبد الناصر".
واستطرد: "في عهد الإخوان كنت خائفا من التعصب وتغيير شخصية الدولة، لكننا كنا نحظى بحرية أكبر، لكن الآن فالأمر كالتالي: "أغلق فمك حتى تستطيع الحياة والاستمرار".وواصل قائلا: "الآن عدنا مجددا إلى مرحلة الهمس داخل الغرف".
ونتيجة لذلك، فإن معظم الاحزاب السياسية الشرعية تتماشى مع نفس خط الدولة، بما يجعلها حقيقة لا تتميز عن بعضها البعض.
وفي ذات الأثناء، تعمل القوات الأمنية على توسيع نطاق جمعية "من أجل مصر" بهدف الحشد للسيسي في انتخابات الرئاسة 2018.
الأجهزة الأمنية المصرية تحاول كذلك خنق الانتقادات عبر بسط سيطرتهم على الإعلام.
وقال عالمون ببواطن الامور داخل صناعة الإعلام إن أجهزة المخابرات توفر المال لشراء شبكات إخبارية خاصة متعددة، وكذلك تهتم بشركات العلاقات العامة التي تبتاع الإعلانات التلفزيونية.
أضف إلى ذلك، ذكرت مصادر إعلامية متعددة أن أجهزة أمنية غالبا ما تحدد ما يمكن وما لا يمكن تغطيته، وعبر من.
وربما يفسر ذلك لماذا أوقف إبراهيم عيسى الصوت المعارض الوحيد للسيسي برنامجه بسبب "ضغوط" غير محددة.
وربما يفسر ذلك تخصيص المذيع القديم عمرو أديب نصف وقت برنامجه تقريبا للترويج لثلاجة "حلوان 360" التي تنتجها شركة تابعة للجيش، كما لو أن أديب يعمل عارضا للبضائع.
بعيدا عن طمأنة الجمهور، أثارت تلك التغطية الإخبارية المقيدة قلقا أكبر، حتى بين أشخاص كانوا ذات يوم مؤيدين شديدي الحماس للسيسي.
رجل أعمال أخبرني قائلا: "لا تعرف من يدير البرنامج"، منوها أن مسودات القوانين المتعلقة بالمنظمات غير الحكومية والاستثمارات تبدو وكأنها قادمة من أجهزة المخابرات دون معرفة الوزراء المعنيين. وأردف: "ثمة عدم اتصال بين السلطات".
وعلى فترات، تطفو مظاهر عدم الاتصال على الملأ. ففي وقت سابق من يناير الجاري، أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكما ضد قرار السيسي بإبطال تسليم جزيرتي تيران وصنافير للمملكة السعودية، داحضة ادعاءات الحكومة بأن مصر كانت تشرف فقط على الجزيرتين من أجل الرياض.
القضية برمتها كلفت السيسي على المستوى الداخلي، فالدولة دأبت عبر عقود عديدة على وصف تيران وصنافير بالجزيرتين المصريتين في المناهج، ولذلك رأى العديد من المصريين أن السيسي كان يبيع الأرض مقابل المساعدات السعودية.
القضية كذلك كلفت السيسي خارجيا، ففي نوفمبر، أعلنت الرياض تعليق مساعدات نفطية كانت قد وعدت بها أثناء زيارة الملك سلمان لمصر في أبريل 2016، وأخبرني مسؤولون مصريون أنهم لا يتوقعوا استئناف تلك المساعدات.
حقا، بعد مرور 6 سنوات على انتفاضة ميدان التحرير وأحلام الربيع العربي، تبدو مصر في حالة التصاق.
القليل يعتقدون أن الآلام الاقتصادية ستتبدل قريبا، ولا يوجد كذلك أي طريق سياسي يمكن المضي فيه قدما.
أحد مؤيدي السيسي السابقين أخبرني: "أحيانا تسأل نفسك، من يكون البديل؟ ولا تجد أحدا. كل السياسات يتم تنفيذها للتقين من عدم وجود بديل، بحيث لا تملك إلا الرضا بالأمر الواقع".
يعيش المصريون إذن مع الأمر الواقع لأنه لا يبدو أمامهم أي خيار آخر.
رابط النص الأصلي