في أواخر كانون الأول (ديسمبر) الماضي أوردت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية إن الاقتصاد الهندي أصبح يحتل المرتبة السادسة عالمياً من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وتسبقه اقتصادات خمس دول فقط، هي الولايات المتحدة الأميركية، وتليها الصين ثم اليابان ثم ألمانيا ثم فرنسا. وقد تقدَّمت الهند على حساب المملكة المتحدة التي تراجعت إلى المركز السابع. ووفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي يتوقع أن يتفوق الاقتصاد الهندي على الاقتصاد الفرنسي صاحب المرتبة الخامسة مع وصول الناتج المحلي الإجمالي للهند خلال السنوات الثلاث المقبلة إلى 3.29 تريليون دولار، مقارنة بـ 2.99 تريليون دولار حالياً، فيما يتوقع أن يتراجع الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا إلى 2.85 تريليون دولار. وأوضحت المجلة أن الهند أصبحت أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، متفوقة على الصين التي احتفظت بهذا اللقب لوقت طويل، وأن صندوق النقد الدولي توقع في تشرين الأول (أكتوبر) 2016 نمو الناتج المحلي الإجمالي للهند بنسبة 7.6 في المئة عام 2017. ويزيد من قيمة هذه الإنجازات الهندية أنها تتحقق في ظروف اقتصادية عالمية حافلة بالمصاعب، وتواجه فيها دول كبرى مشكلات اقتصادية جديّة.
هيكل الاقتصاد الهندي والقطاعات المؤثرة فيه تعكس معالم نجاح كبير، فقطاع التكنولوجيا والمعلوماتية من أبرز القطاعات، وهو صاحب الإسهام الأكبر في الاقتصاد. ووفقاً لأرقام عام 2015، بلغت صادرات الهند في مجال التكنولوجيا والمعلوماتية 465 بليون دولار، من بينها 155 بليون دولار للبرمجيات. هذا النمو الاقتصادي ترافقه حيوية سياسية ودور أكبر في السياسة العالمية ومكانة دولية مهمة. ورصد تقرير صادر عن المعهد النروجي لحل النزاعات Norwegian Center for Conflict Resolution في نيسان (أبريل) 2016، التحركات النشطة للسياسة الخارجية الهندية في العالم، واصفاً إدارة رئيس الوزراء الهندي الحالي ناريندا مودي بأنها «عملت على اكتشافات سياسات ومبادرات جديدة، لاستغلال القوة الصلبة والناعمة للدولة».
ففي جانب القوة الصلبة، كما يقول التقرير، عملت الهند على زيادة القدرات العسكرية برية وبحرية وجوية إلى الحد الذي أصبحت معه من بين أكبر مستوردي السلاح على مستوى العالم. وفي هذا الإطار وثقت علاقاتها بالولايات المتحدة الأميركية وروسيا من خلال عقد الصفقات العسكرية. وفي جانب القوة الناعمة نجحت الهند في وضع «المسبار الآلي» في مدار المريخ في أيلول (سبتمبر) 2014، كما انتشرت العلامات التجارية الهندية حول العالم، وركز رئيس الوزراء مودي في خطاباته داخل الهند وخارجها على التراث الثقافي والحضاري للهند.
صعود الهند عالمياً، إلى جانب قوى أخرى مثل الصين، يغير من المشهد العالمي الذي تصدرت فيه الولايات المتحدة موقع القوة زمناً طويلاً، ثم انفردت بها لنحو عقدين من الزمان منذ بداية التسعينات. وإزاء هذا التغير، تعين على كثير من دول العالم أن تعيد هيكلة علاقاتها بما يواكب هذا التغير. وكانت دول الخليج العربية من بين من أدركت هذه الحقيقة في وقت مناسب، وهو ما انعكس على سياساتها وعلاقاتها الخارجية خلال السنوات العشر الأخيرة، وتزايدت وتيرته أخيراً.
هذا هو السياق الذي تأتي فيه زيارة الشيخ محمد بن زايد للهند الأسبوع الماضي، بما يجعلها أكبر من مجرد زيارة تم فيها توقيع اتفاقات اقتصادية وإبرام تفاهمات سياسية مهمة ومفيدة للبلدين. فهذه الزيارة جزء من تحرك استراتيجي أوسع هدفه بناء تحالفات سياسية مع القوى الفاعلة في العالم، استباقاً لتحولات كبيرة في سياسات الولايات المتحدة كان يمكن أن تمثل خطراً على أمن منطقة الخليج واستقرارها لو لم تبادر دول الخليج العربي إلى التحرك قبل سنوات، استشرافاً منها لما يحدث الآن. ومثل هذا التحرك هو تأكيد ما تتمتع به القيادات الخليجية الحالية من قدرة على قراءة اتجاهات الوضع العالمي بصورة صحيحة، وعلى تحويل الإدراك إلى عمل يستثمر الفرص المتاحة عالمياً، ويستبق التحديات والأخطار ويحد من تأثيراتها السلبية. ربما يصعب على كثيرين قبول فكرة وجود جوهر مشترك للسياسة الخارجية الأميركية خلال رئاستي باراك أوباما ودونالد ترامب، ولكن سلوك ترامب منذ تنصيبه قبل عشرة أيام يشير إلى ذلك. وهذا الجوهر المشترك هو «التحلل من التزامات سابقة مستقرة» الذي يمكن اختصاره بكلمة «التخلي». ومن دون دخول في التفاصيل فإن باراك أوباما تخلى ببساطة عن التزام تجاه أمن منطقة الخليج يعود تاريخه عموماً إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، ويعود تاريخه الأقرب إلى عام 1979 الذي اتخذت فيه الثورة الإيرانية مساراً يهدد أمن المنطقة. وليس بعيداً من ذلك ما حدث من «تخلٍّ» عن استخدام قدرات الولايات المتحدة الأميركية في معالجة كثير من الصراعات العالمية التي تفاقمت بشدة، على رغم أن الولايات المتحدة كانت أحد عناصر اشتعالها، إلى الدرجة التي ظهر معها أن واشنطن تريد لهذه الصراعات أن تتواصل وتزيد حدتها، وهو ما جعل المشهد العالمي أكثر ارتباكاً وتأزماً.
«التخلي»، كذلك، هو ما يبدو أكثر العناصر وضوحاً في سياسات دونالد ترامب. وعلى رغم حقيقة أنه لم يمر وقت طويل، فقد تعددت مظاهر وحالات التحلل من التزامات واتفاقات ومعاهدات سابقة ومستقرة، مثل الانسحاب من اتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية (النافتا) المبرم مع المكسيك قبل 23 عاماً، والانسحاب من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، والتصريحات غير المسبوقة التي وصف فيها ترامب منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بأنها منظمة «عفّ عليها الزمن». ويضاف إلى ذلك ظهور بوادر لسياسة «الابتزاز» في توجهات الولايات المتحدة تجاه دول الخليج، وبدا ذلك في قانون «العدالة ضد دعاة الإرهاب» (جاستا) وهو من إفرازات عهد أوباما بغض النظر عن موقف أوباما نفسه منه، ويوازي ذلك تصريحات سابقة لترامب قال فيها إن دول الخليج يجب أن تدفع المال «مقابل ما تحصل عليه سياسياً وأمنياً».
تنويع قاعدة الدعم والعلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية هو ما تنجزه بنجاح دولة الإمارات العربية المتحدة، وتشمل هذه القاعدة دولاً صاعدة عالمياً مثل الصين وأخرى تستعيد دورها مثل روسيا. ومن دون إغفال للاختلافات أو التباينات في وجهات النظر، فإن هناك أسساً صلبة لتحالفات ترقى إلى مستوى التحالف الإستراتيجي. ففي الزيارة الأخيرة للشيخ محمد بن زايد آل نهيان للهند تم توقيع اتفاق للشراكة الإستراتيجية الشاملة، واتفاقات ومذكرات تفاهم شملت الصناعات الدفاعية، والاقتصاد والتجارة والبنية التحتية، والنفط، والإعلام، ومكافحة الاتجار بالبشر ومجالات أخرى للتعاون.
وتضمن البيان المشترك الصادر من البلدين في نهاية الزيارة؛ «التأكيد على أهمية تعزيز ثقافة الانفتاح والتسامح، والعمل معاً لمواجهة شرور التطرف والإرهاب والتعصب الديني، وضرورة مواصلة جهود نشر التجربة الإماراتية - الهندية في بناء مجتمعات كنماذج يقتدى بها في محاربة التطرف والإرهاب».
ولا تخلو من دلالات مهمة، تلك الحفاوة التي استُقبل بها الشيخ محمد في الهند، والاهتمام الرسمي والشعبي البالغ التعبير عن التقدير والترحيب والمشاعر الطيبة تجاه دولة الإمارات وقادتها، وهذا في حقيقته ترحيب يمتد إلى دول الخليج العربية كلها، ويعكس إدراك الهند للثقل السياسي والاقتصادي الذي يمثله مجلس التعاون لدول الخليج العربية كمؤسسة، وكل دولة من دوله على حدة. وقد عبرت صحيفة «إنديا تايمز» عن ذلك في تغطيتها للزيارة، إذ قالت: «الهند تحتاج إلى الإمارات أكثر من حاجة الإمارات إليها، نظراً للتطور والمكانة الكبيرة اللذين تحظى بهما الإمارات على الساحة الدولية، إذ إنها تستثمر بقوة في المستقبل والقطاعات المستدامة التي تضمن استمرارية التقدم والنمو فيها».
لن يكون سلوك أي من القوى الصاعدة عالمياً تجاه دول مجلس التعاون مختلفاً بحكم وزنها وتأثيرها، والعلاقات الثنائية مفيدة في هذا الصدد، لكن دول المجلس ستعظم مكاسبها إذا تحركت بصورة جماعية أيضاً، ووقتها لن يكون في التحولات الأميركية أو حتى الأوروبية ما يقلقنا، وهذا ما يمكن العمل عليه الآن.
النص الأصلي