الساعة تشير للثالثة فجراً، الشوارع تخلو من المارة، في الوقت الذي يتجمع فيه عدد كبير من النساء والأطفال أمام مجمع سجون طرة على طريق الأوتستراد، يجلسون بين حواجز خرسانية صماء.
مشهد اعتاده ذلك المكان يومياً منذ ساعات الفجر الأولى و حتى الثامنة صباحاً من اليوم التالي، يجلس الأهالي بين الحواجز الخرسانية كجزء من رحلتهم التي يصفونها بقطعة من العذاب لرؤية ذويهم لفترة قد لا تتجاوز 5 دقايق داخل "سجن العقرب" أو طرة شديد الحراسة 922 كما يطلق عليه رسميا.
في بداية عام 2016 قررت إدارة كل سجن بمنطقة سجون طرة ألا تزيد عدد الزيارات يومياً عن 20 زيارة ، على أن يكون التسجيل مسبقا بأسبقية الحضور، ما دفع الأهالي للذهاب للسجن من مساء اليوم السابق للزيارة للمبيت أمام أبوابه أملا في الحصول على فرصة لزيارة أبنائهم .
في مواجهة باب مجمع سجون طرة جلست سيدة وابنتها العشرينية أمام باب حديدي تنتظر حلول الساعةالسادسة صباحاً لتمر عبر تلك البوابة.
في التاسعة مساءاً تخرج زوجة كمال عبد اللطيف، من بيتها في منطقة الجبل الأصفر التي تقع بين "القاهرة والقليوبية"، لكونها لا تستطيع الخروج من بيتها بعد العاشرة، هكذا تؤكد في حديثها لـ"مصر العربية"، أثناء الجلوس بجانب ابنتها ، فعادات أهل المنطقة تمنعها من ذلك، حيث تخشى التعرض لمضايقات في الطريق ما جعل الانتظار أو النوم أمام السجن أكثر أماناً.
مازال زوجها محبوس احتياطياً في قضية أنصار بيت المقدس ولها الحق في زيارته أسبوعياً، لكن هذا لا يحدث، مع نهاية نوفمبر 2016 قررت إدارة السجن أن تكون الزيارة 30 فقط بحجز في إدارة السجن ما يعني زيارة واحدة كل شهرين ونصف، قد تتم أو لا، متحملة معاناة إعداد الطعام والانتظار أمام السجن وضياع تكلفة الزيارة معلقة :"أنا أم لـ4 أولاد والزيارة بتتكلف كتير".
"بمزاجهم"،ذلك هو قانون الزيارة السائد لسجن العقرب، فالعدد المسموح له بالزيارة يتحكم فيه الضابط كل يوم، وقد تلغي إدارة السجن الزيارة في بعض الأوقات مثلما يحدث مع زوجة عبد اللطيف.
في البداية كان الأهالي هم من يحرروا كشف الزيارة بأنفسهم ، لكن الآن إدارة السجن هي من تفعل ذلك،ومع فتح أبواب السجن في السادسة قد يتبخر بعض أسماء الأهالي، بحد قولها.
الوصول لغرفة التفتيش يستغرق ساعة، وفي الحادية عشر صباحاً تبدأ الزيارة الأولى لا تستغرق في أفضل الأحوال 10 دقائقـ بحسب ما قالته زوجة عبداللطيف.
يقطع الحديث أحد الرجال يقف مرتكزاً على الجانب الأخر من الحاجز الخرساني، إنه في بعض الأوقات قد تضيع ورقة الحجز ويعود الأهالي بدون زيارة.
حكايات الأهالي أمام سجن العقرب يتخللها روايات عن أمهات لازلن يبحثن عن أبنائهن، في ذلك اليوم كانت والدة أحد المحبوسين تروي ما حدث منذ يومين أثناء وقوفهم في طابور الزيارة، إذ جاءت سيدة تسأل بلهفة، عن من سيدخل للعقرب.
طلبت تلك السيدة إدخال صورة لنجلها لعل أحد المحبوسين يتعرف عليه، لكنهم أخبروها أنه أمر ممنوع وأعطتهم اسمه "محمد صلاح فوزي" من البدرشين.
تجهل والدة صلاح ما يجب أن تفعله ، فهي تبحث عنه منذ عامين حين خرج لأحد دروسه ولم يعد، أمام السجون أو داخل الأقسام لكنها تجهل كيفية تحرير تلغرافات أو شكاوى مثلما فعل أهالي المختفين قسرياً، تركت رقم هاتفها لعل أحد يجيبها يوماً بمكانه ورحلت، بحسب الأهالي.
معاناة الزوجات
جلست مفترشة الأرض، ينام طفلاً 5 سنوات مستنداً لقدمها، تخشى ذكر اسم زوجها المتهم في قضية خلية الظواهري، تروي ما حدث معها حين مُنعت الأسبوع الماضي من الزيارة بحجة عدم وجود اسمها بالتسجيل رغم بكائها كانت الإجابة "روحي وتعالي بكرة".
ما جعلها متمسكة بالدخول هذا اليوم هو طلب زوجها في رؤية نجله البالغ من العمر سنتين فقط، فاحضرته معها لكنها فشلت في الدخول، وأجُبرت على الحضور هذا الأسبوع متحملة تكلفة إضافية في إعداد الطعام.
بجانب السيدة العشرينية جلست زوجة متهم في نفس القضية، تخرج من البيت معها في منطقة دار السلام خوف التحرك ليلاً وحدا، بعدما فشلت في الدخول حينما حضرت صباحاً، مؤكدة أن زوجها يرفض ما تتعرض له طالباً منها عدم الحضور لكنها تضطر بعد طلب الأطفال رؤية أبيهم.
تلتقط الحديث زوجة عبد الوهاب مصطفي، المتهم في قضية كتائب حلوان، من بني سويف، تخرج من بيتها في منتصف الليل لتصل للسجن قبل السادسة صباحاً، أو تضطر في بعض الأوقات لتأجير شقة مثلما فعلت أخر 3 أشهر في منطقة حلوان لتكون بالقرب من السجن.
تعرضت زوجة عبد الوهاب لحادثة انقلاب "طفطف" الزيارة بها في فبراير الماضي، وفقدت الوعي خرج طبيب السجن للكشف عليها، وعلى الرغم من ذلك لم يُسمح لها بالزيارة إلا لـ5 دقائق بينما بقي البعض الأخر لمدة أطول ذلك اليوم.
إصابات جلدية
استسلم البعض الباقي من الأهالي للنوم مع الساعة 6 صباحاً، يحملون بطاطين يفترشون بها الأرض، أمام منهم سيدة لم تستطع الجلوس على الأرض لكبر سنها فأتت حاملة كرسي من البلاستيك للجلوس عليه، بصحبة ابنتها العشرينية.
تخشي الفتاة الافصاح عن اسمها أو اسم شقيقها، المتهم في قضية أنصار بيت المقدس، قٌبض عليه منذ عامين، تؤكد أنها ليس لديها مشكلة في النوم والانتظار ليلاَ من الواحدة وقت خروجها من بيتهم في منطقة مصر الجديدة، بشرط أن تتمكن من رؤية شقيقها، لكن في بعض الأوقات تٌمنع من الدخول لاكتفاء إدارة السجن بعدد معين.
والدها محامي بالنقض، تتسأل في كل مرة تُمنع فيها عن القانون المطبق من لائحة السجون، لكن إدارة السجن :"هنا مفيش قانون في العقرب القانون احنا اللي بنقولوا"، ذلك الوضع مطبق على كل ما يتعلق بالزيارة من إدخال الملابس والطعام والمتعلقات الشخصية.
في فترات منع الزيارة لم تستلم للوضع، اعتادت الحضور في أوقات متفرقة مع الأهالي على أمل أن يٌسمح لهم بالدخول
يقبع شقيقها داخل عنبر H3، بتولي اللواء حسن السوهاجي، إدارة مصلحة السجون، تحول الوضع لـ"مأساوي"، لم يعد مسموح إدخال الطعام، وعندما قبلوا به لم يعد يتعد 3 ملاعق أرز وقطعم صغيرة من اللحم داخل كيس بلاستيكي، جُردوا من ملابسهم ومتعلقاتهم، ووزعوا بدل أشبه بـ"الخيش"، بعضها لا يناسب مقاسهم، هكذا ترويأخت أحد المحبوسين في العقرب.
ظلوا شهوراً لا يملكون أدوات نظافة شخصية، حتى تحول الوضع إلى حالات من الجرب، "كحتوا" معها جلودهم بأظافرهم"، على حد تعبيرها، وأصيب شقيقها بجرب في رقبته تركت علامات سوداء عليها بشفائه، لم يكونوا يملكون للنظافة سوى المياه التي انقطعت بتحكم خارجي من إدارة السجن.
حقيقة وضع الزنزانة لا تعلمها، المحبوسين في الداخل يحاولون في أغلب الأحيان اخفاء الأوضاع السيئة، على حد قولها، لكنها تعلم من باقي الأهالي دخول شقيقها للتأديب لمدة شهر لدفاعه عن رجل كبير تعرض للضرب في فترة منع الزيارة والتجريدة لامتلاكه قطعة من الخبز اخفاها منهم.
غرفة التأديب لا يستطيع الشخص الجلوس فيها، أما الجلوس في وضع "القرفصاء" أو الوقوف، الطعام داخلها لا يتعد ربع رغيف خبز وقطعة جبن يوميا، على حد وصف الفتاة العشرينية .
بحلول السابعة وقف جميع الأهالي أمام البوابة في طابور ليبدأ معها إجراءات دخولهم والتفتيش بحسب الكشف الموجود لدى إدارة السجن، ظلت عملية الدخول حتى ما بعد العاشرة اختفى الأهالي داخل البوابات.