"ده المكان الوحيد اللي بحس فيه إني بني آدم".. ذلك الشعور الذي عبر عنه أحد من تعرضوا للتعذيب قبل 15 عامًا، لمنى حامد، عضو مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب.
كلما شعرت حامد بنقص طاقتها استعادت تلك الكلمات لتُكمل رحلة بدأتها منذ 1993 في رعاية من تعرضوا للتعذيب، بعد أن انضمت لـ 3 من الأطباء قرروا تأسيس مركز النديم الذي شمع اليوم من قبل قوات الأمن.
وتبرعت الدكتورة سوزان فياض، بشقة تملكها في حي عين شمس كمقر للعيادة، وبدأت العمل مع الدكتورة عايدة سيف الدولة وماجدة عدلي، وانضم لهما العديد بعد ذلك لكنهم ظلوا أعمدة المكان.
لم يكن دور المركز الإشراف على العلاج فقط، بل امتدّ لمحاولة الحصول على حق من تعرض للتعذيب في جلسات المحاكمة، وبدا واضحًا بالنسبة للعاملين في المركز تحسن حالات الضحايا النفسية بعد رؤية المتهمين داخل القفص أو لمجرد سماع أقوالهم في النيابة، "ذلك لم نتعلمه في كلية الطب لكن تعلمناه في النديم"، هكذا تعلق حامد.
رحلة علاج
بعيون مليئة بالدموع والفرحة كان الحديث بين العاملين في المركز والضحايا في جلسات المحاكمة، لإيمانهم سوياً أنه لا علاج إلا بردّ الاعتبار، فجلسات المحاكمات وطوابير الانتظار التي وقف فيها أطباء النديم متضامنين مع كل من تعرض للتعذيب عجزوا عن حصرها.
وأبدت حامد شعورها بالألم كلما ردد أحد على مسامعها سؤالًا هل يقل التعذيب أم يزداد؟، وتبقى الإجابة أكثر إيلاماً لها: "طبعا بيزيد".
ولكنها أكدت: "خوف الأجهزة الأمنية يزداد أيضاً بعدد من يكرههم ويقاومهم بفكرة أو جملة أو مجرد شعار، القمع لا يقلل الكراهية ولا يضمن الخضوع، ولا حصونهم اللي مستخبين وراها بتقلل خوفهم".
لم يكن النديم بالنسبة للمترددين عليه مجرد حوائط ووسائل لمساعدتهم، لكنه أطباء لجأوا لهم في لحظة ضعف، استطاعوا تغيير حياتهم بالتفكير في كل خطوة فيها، كما تقول ضي رحمي، أحد العاملين بالمركز :"يبقى هؤلاء الأربعة مصدر الأمان الوحيد الراسخ في حياتنا".
محصلة العمل
في بداية 2015 وظهور قضايا جديدة مرتبطة بعمليات القبض كالاختفاء القسري والإهمال في السجون، قرر النديم إصدار أرشيف التعذيب شهرياً بعد أن كان سنوياً.
وخلال عام 2016 رصد المركز 1384 حالة قتل و123 وفاة في أماكن الاحتجاز، و535 حالة تعذيب فردي و307 تعذيب وتكدير جماعي، و472 إهمالا طبيا بالسجون، و980 حالة اختفاء قسري.
لا يعتبر العاملون في النديم عملهم بطولياً، لكنه مجرد محاولة لتجميع جرائم الدولة، بحد تعبير رحمي، فالمعلن بالنسبة لهم مجرد قمة من جبل الجليد والأرقام الحقيقية مضاعفة، مؤكدة أنّ الأبطال الحقيقيين من يقاومون البطش داخل السجون.
لكن في 17 فبراير 2016 فوجئ المركز بأمناء شرطة من حي الأزبكية يحملون قرار الإغلاق من إدارة العلاج الحر بوزارة الصحة، وأقام دعوى أمام القضاء الإداري ضد محافظ القاهرة بصفته ووزير الصحة بصفته ومدير مديرية الشئون الصحية بصفته، بوقف تنفيذ قرار الغلق الإداري رقم 16 والصادر بتاريخ 8/2/2016 والصادر من إدارة العلاج الحر بقطاع الصحة بمحافظة القاهرة وما تلاه من صدور أمر الغلق الإداري رقم 30 لسنة 2016 من حي الأزبكية فيما تضمنه من غلق إداري للعيادة.
لكن المحاولات لم تتوقف وفي نوفمبر أصدر البنك المركزي قرارًا بتجميد أموال المركز، بحجة عدم توفيق أوضاعه وفقاً لقانون الجمعيات إلا أن المركز قدم أوراق تؤكد عدم خضوعه لوزارة التضامن ورفع التجميد عنه، ليفاجأ العاملون فيه اليوم الخميس، بتشميعه فجأة من قبل قوة من الشرطة.
وأنهت رحمي حديثها عن النديم قائلة:"إحنا على طول بنشعر بالعجز وقلة الحيلة والاكتئاب لأننا بنحرث في البحر، لكن مجرد معرفتنا إننا قلقناهم ومضايقنهم دي حاجة تسعدنا، والحقيقة كمان تدفعنا إننا نكمّل".