إبّان احتدام المعركة الانتخابيّة بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، ركّز الممانعون العرب نيرانهم على كلينتون، كان أكثر ما يهمّهم أنّ المرشّحة الديموقراطيّة قد تتدخّل في سوريّة وقد تطيح بشّار الأسد وسيطرته المؤسَّسة على السجون والزنازين، تاريخ وزيرة الخارجيّة الأميركيّة السابقة، بوصفها من «صقور» إدارة أوباما والحزب الديموقراطيّ، كان يضاعف عداءهم لها وخوفهم منها.
نقد ترامب المعلن لإيران، ولنظام سيطرتها الإقليميّ، كان يُقلقهم قليلاً، لكنّ «تأمّلاتهم» عن المرشّح الجمهوريّ الذي حظي بالرئاسة لاحقاً ظلّت ثانويّة في الأهميّة كما في التركيز: فأوّلاً، كان الخوف من فوز هيلاري هو الطاغي، فيما بدا من المشكوك فيه كثيراً أن يفوز منافسها. وثانياً، كان الكلام عن ترامب سريعاً ما يتجاوزه ليذهب في منحى «نظريّ» بحت: ذاك أنّ ترامب من عوارض الرأسماليّة المأزومة، أو من علامات الاستعداد الفاشيّ في الرأسماليّة، أو هو الوجه الخفيّ – إنّما الحقيقيّ! – لأميركا. وأخيراً، كان الممانعون يجدون ضمناً ما يطمئنهم في صداقة ترامب لبوتين: ذاك أنّ الروسيّ الهادئ لا بدّ أن يروّض الأميركيّ الهائج، وصديق صديقي قد يغدو صديقي.
هيلاري كانت الكابوس الفعليّ. ترامب كان همّاً نظريّاً. والتناول النظريّ هذا كان يشبه تكبير الحجر من أجل الاستنكاف عن الضرب فيه. فالأحجار الحقيقيّة لا تُضرب إلاّ على المرشّحة كلينتون.
إذاً، الاهتمام بما تراءى تدخّلاً في سوريّة فاق في أهميّته كلّ المخاوف المنسوبة إلى ترامب: العنصريّة والجنسويّة والاحتيال والتسبّب بنزاعات وربّما حروب و «تلفزيون الواقع» والتخلّف على أنواعه، ناهيك عن تمثيل قطاع من الرأسماليّة، عقاريّ وسياحيّ، لا يُعتدّ بإنتاجيّته.
لكنْ حين فاز ترامب وحلّ في البيت الأبيض، وخصوصاً بعد فرض إدارته عقوبات على إيران، ساد خطّ جديد في النقد الممانع. وهو سيتصاعد حتماً مع احتمال تصنيف «الحرس الثوريّ» منظّمة إرهابيّة. هكذا، للمرّة الأولى، بات الرجل خطراً فعليّاً، بل هو الخطر الفعليّ، فهيلاري كلينتون انهزمت فيما الروسيّ الصامت لا يبدو صالحاً للاستخدام في ترويض الأميركيّ الصاخب.
النقد «النظريّ» لم يختف بالطبع، إلاّ أنّه عثر على لحمه وشحمه: تهديد إيران وإمكان تغيير توازن القوى في سوريّة والعراق، في هذا الإطار بات يُستشهد بالمآخذ التي تؤخذ عليه، لا لأنّها خطيرة بذاتها، بل لأنّها تتجانس مع موقفه السلبيّ من... إيران.
المعادلة الفعليّة أصبحت: من يعادي إيران ونظامها الإقليميّ، لا بدّ أن يكون عنصريّاً إلخ...، أو: إنّ عنصريّته وباقي صفاته تمهيد مبكر لمعاداته إيران. في المقابل: لو لم يُعادِ ترامب إيران، لأمكن هضم كلّ المآخذ النظريّة عليه، أو تسجيلها من دون اشتقاق أيّ خلاصة سياسيّة تترتّب على ذلك.، والسابقة المعروفة هنا هي علاقة الممانعين بالرئيس الروسيّ: لا بأس بأن يقف الرجل مع إسرائيل ما دام واقفاً معنا في سوريّة.
ذاك أنّ القول إنّ ترامب عنصريّ يبقى بذاته قولاً فاتراً، وإلى حدّ ما حياديّاً، كالقول إنّ المياه باردة، أو إنّ حرارة الشمس قويّة، أمّا حدود النقديّة فلا تتعدّى الانزعاج من برودة الماء أو سخونة الشمس بوصفهما أكثر ممّا تحتمله الأجساد في زمن لا يتعدّى الربع ساعة، لكنّ التأويل «النظريّ» نفسه يغدو تعبويّاً ونضاليّاً وذا مهمّات مباشرة حين يتّضح الموقف السلبيّ من إيران ومن سياستها السوريّة.
إيران وسوريّة الأسد هما فعلاً «بوصلة» الممانعين، دع عنك، إذاً، ماركس وهابرماس، تشومسكي وجيجك، دع عنك فلسطين وإسرائيل والعنصريّة والجنسويّة ومكافحة التخلّف والتكفير والنهب والاستغلال... المهمّ أن يبقى المسلخ في صيدنايا شغّالاً ومزدهراً، بشّار الأسد وقاسم سليماني صادقان: إنّهما يريدان المسلخ من دون نظريّات في السلخ، الآخرون، جماعة «النظريّة»، هم أهل الكذب المحض.
نقلًا عن صحيفة "الحياة اللندنية"