عام كامل يمرّ اليوم على رحيل الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، الذي ساهم انطلاقاً من عمله الصحافي في التأريخ لماضينا العربي القريب، مستنداً بذلك إلى مبدئه أنّ «الصحافة هي في صميمها تاريخ تحت الصنع». ولعلّ الظرف السياسي المتردي والمشتعل، يحتّم على أهل هذا العالم العربي المتعب العودة إلى عالم الأستاذ الراحل، بحثاً عن بعضٍ مما كان، وسعياً إلى إعادة قراءة ما مضى... برفقته. رحلة العودة تلك، يقودها لعشرة أيام، الصحافي والكاتب المصري عبدالله السناوي، عبر فصول من كتابه (الذي لا يزال قيد الطبع): «أحاديث برقاش؛ هيكل بلا حواجز».
في يومين عاصفين، أحدهما بكتل النار والآخر بغضب الطبيعة، فرّقت الحوادث ما كان يجده (محمد حسنين هيكل) في قرية برقاش من سكينة يأنس إليها وألفة اعتادها لعقود طويلة. لكل يوم قصة أقرب إلى التراجيديات الإغريقية حين تداهم المآسي أصحابها بغير انتظار ولا يملكون صدها.
اليوم الأول، ١٤ آب/أغسطس ٢٠١٣ بعد فض اعتصامي «رابعة العدوية» و»النهضة» بساعات. واليوم الثاني، ٧ كانون الثاني/يناير ٢٠١٦ قبل رحيله بأسابيع. مستعيداً بيت شعر أبي فراس الحمداني عن الشوق الذي «لا يُذاع له سر»، جاء صوته من الشاطئ الإيطالي في سردينيا: «أنا قادم إليكم غداً». كان ذلك قبل فض الاعتصامين. بدا في صوته شوق قلق لا شوق اطمئنان على مصر وأهلها، ونذر الصدام تتجمع في الأفق السياسي، كأنها دقات «القدر» في سيمفونية «بيتهوفن» الشهيرة. كانت أنباء قد وصلته عن حملة تحريض بقوائم سوداء، ضمت اسمه وكلاماً عن أدوار قام بها، أو وساطات تولاها بين الفرقاء، بينما كان بعيداً يقضي إجازته الصيفية. سألتُه في ما يشبه الإلحاح أن يتمهل بعض الوقت قبل الوصول إلى القاهرة ويدير دفة عودته إلى اتجاه آخر عند الساحل الشمالي بالقرب من الإسكندرية، فـ»عند انفلات الأعصاب لا أحد بوسعه أن يتوقع ما قد يحدث». كعادته أخذ وقته في التفكير قبل أن يستقر قراره على أنه من الأوفق أن يكون قريباً من الأحداث يتابعها من الساحل الشمالي بعيداً عن العاصمة وكمائن الخطر فيها. في تلك اللحظة، التي بدت خياراً اعتيادياً بين طريقي سفر، حفظ الله حياته... فقد كان تخطيطه الأصلي أن يصل إلى القاهرة يوم الاثنين ١٢ آب/أغسطس، وأن يقضي الثلاثاء كاملاً في لقاءات مع مقربين وأصدقاء قبل أن يتوجه في اليوم التالي إلى بيته الريفي في برقاش على ترعة المنصورية. في صباح الأربعاء ١٤ آب/أغسطس بدأ فض الاعتصامين. قرب الظهيرة، اقتحمت مجموعات مسلحة الباب الرئيسي لبيته، الذي لا يوجد عليه ما يشير إلى صاحبه، بعدما أحرقت بزجاجات المولوتوف حديقته الأمامية. أخذت تدمر كل ما فيه من أثاث ولوحات وذكريات، أحرقت حدائقه بأشجارها ونباتاتها، واستحال البيت أطلالاً تساقطت جدرانه بتفجيرات أنابيب غاز. لم تكن هناك شرطة تردع، فمقراتها تعرضت لاعتداءات في موجة عنف شملت دور عبادة وعدالة ومنشآت عامة ومباني حكومية. وسط أطلال الحرائق، أبت صخور أحضرَها إليه العالم الجيولوجي الدكتور رشدي سعيد، التدمير، بعضها من الصحراء الشرقية، وبعضها الآخر من أرض السد العالي، وظلت شاهدة على ذاكرة المكان. «أولى ضربات الكوارث أن الكتلة الرئيسية من الكتب النادرة والوثائق التاريخية، التي لا سبيل لتعويضها راحت»، على ما قال واصفاً النتائج المروعة.
في التعبير نفس تراجيدي تكرر في اليوم الثاني، حيث سادت القاهرة عواصف متربة منذ ساعات النهار الأولى. كنت أعرف أنه سوف يذهب إلى برقاش في صباح هذا اليوم. رجوته أن يؤجل زيارته إلى وقت آخر خشية أن يتعرض لنزلة برد في جوها المفتوح.
كانت الساعة التاسعة صباحاً. قال ضاحكاً: «أنا الآن على مقربة من القرية الذكية، وبعد دقائق سوف أكون في برقاش». وكانت برفقته السيدة قرينته.
في المساء أخبرني: «كان عندك حق، فالطقس سيئ للغاية». بعد ساعات انتابته أزمة في الرئة استدعت نقله إلى أحد مستشفيات مدينة أكتوبر. لم يكن مرتاحاً للبقاء في المستشفى، وطلب العودة إلى منزله في الجيزة. غير أن مصاعب صحية استدعت نقله مجدداً إلى مستشفى آخر في حي الدقي. مرة ثانية طلب سرعة العودة إلى المنزل. مانع أي فكرة لعودة ثالثة إلى أي مستشفى. مانع بصورة مطلقة لم يكن ممكناً المساجلة فيها. بدا متأهباً نفسياً للرحيل. أراد أن يموت على سريره، أن يواجه قدره بلا وسائل اصطناعية للحياة. لم يكن يريد أن تكون نهايته كونستون تشرشل (الزعيم البريطاني الذي قاد بلاده إلى النصر في الحرب العالمية الثانية)، رجل يثير الشفقة على ما وصل إليه إثر تقدم العمر وأمراضه. بدا أقرب إلى تفكير صديقه فرنسوا ميتران (الرئيس الفرنسي الاشتراكي الذي حكم بلاده أربعة عشر عاماً متصلة)، رجل يقرر ألا يعاند الطبيعة عندما تعجز طاقته وتفتر همته.
(١)
وهو على سرير المرض الشديد، حاول أن يستدعي أسلحته التقليدية في مقاومته. معنى الحياة عنده أن يتابع حركة الأحداث وما خلفها، ويقرأ المستقبل وما قد يحدث فيه. بادرني بسؤال واحد: «قل لي ما الذي يحدث؟». جلست على مقعد بجوار سريره أروي وأتحدث، وهو نصف ممدد منتبه للمعاني من وراء الأخبار ولا يخفي قلقه على مستقبل البلد ومصيره. كانت الجلسة الأولى لمجلس النواب الجديد محبطة بما جرى فيها من تجاوزات فادحة وانفلاتات لسان ضد أي قيم أخلاقية ودستورية، بصورة فاقت أي توقعات ومخاوف. بصوت متعب قال: «مش معقول». على مقربة من سريره كتبٌ غربيةٌ صدرت حديثاً كان قد بدأ في قراءتها، وبعض الجرائد اليومية المصرية، وشاشة التلفزيون مفتوحة على محطة الـ»C.N.N» الأميركية الإخبارية. في غرفة نومه تبدت شخصيته، فكل شيء بسيط وذوقه خاص واللون الأبيض سيد المكان.
هيكل وحرمه علي الباخرة المحروسة في طريق العودة من بلغراد عام ١٩٥٥
من حين إلى آخر تدخل السيدة قرينته، هدايت تيمور، تطمئن على تناوله الدواء وتسأل إذا ما كان هناك شيء يطلبه. قلت: «إنها ملاكك الحارس يا أستاذ محمد» (لم أكن عادة أخاطبه باسمه العائلي الذي اشتهر به في الحياة العامة... فيما بيننا هو الأستاذ محمد وأمام الآخرين فهو الأستاذ هيكل).
كانت تخشى من إنهاك الحديث، وهو يريد أن يدقق في المعلومات، يسأل في الخلفيات ويستقصي الأبعاد. لم يكن بوسعه، وهو على ذلك الحال، أن يتذكر ما كتبه عن لقاء أخير مع الزعيم الهندي التاريخي جواهر لال نهرو: «كان على عادته، حتى وهو على فراش المرض، يريد أن يسمع ويريد أن يحاور». كان هو نفس الرجل، يريد أن يسمع ويريد أن يحاور حتى النفس الأخير. استأذنته أن الوقت حان للتفكير في «تنظيم الطاقة الإنسانية». أن يتخفف من بعض الأعباء واللقاءات وشواغل العمل اليومي من دون أن يغيب عن الساحة وإبداء الرأي في ما يجري عليها من تفاعلات وحوادث.
لم أشر إلى معاناته في علاج الفشل الكلوي، الذي ألمّ به قبل الرحيل، ولا إلى ما يستنزفه العلاج من طاقة العمل التي اعتادها.
علت ابتسامة خفيفة على وجهه المتعب: «لماذا التنظيم؟... سوف أمتنع عن أي نشاط وكل حضور حفاظاً على صورتي». قبل آخر إطلالة تلفزيونية على شبكة (cbc) قرب نهاية ٢٠١٥، لم يكن متحمساً لأي حديث جديد. تساءل: «ألم يحن الوقت للتوقف النهائي عن مثل هذه الحوارات؟». بدا أن هناك شيئاً ما يضايقه، لكنه لم يفصح عنه. أراد أن ينسحب بهدوء من المجال العام كله. قلت: «أرجوك ألا تفعل ذلك، طالما أعطاك الله الصحة والهمة، فلا تتوقف». سأل مرة أخرى: «لماذا؟». قلت: «معنى الحياة». ردد الجملة مرتين، ثم صمت كأنه في حوار داخلي لا شأن له بما حوله. في مرضه الأخير اتصل به الرئيس عبدالفتاح السيسي، لمرات عديدة كلما كان بقدرة الأستاذ أن يتحدث. طلب نقله إلى المركز الطبي العالمي على طريق الإسماعيلية لتلقي العلاج. وهو لم يكن يريد أي علاج على نفقة الدولة، أو في أحد مستشفياتها. بنفس القدر، فإنه لم يكن يريد أن تكون جنازته عسكرية على ما أخبر الرئيس في لقاء ضمهما في قصر الاتحادية قبل أن يداهمه المرض الأخير. قال بما هو نصه: «أنت لا تملك لي سوى أن تأمر بجنازة عسكرية، وأنا لا أريد مثل هذه الجنازات».
قبل أن يداهمه المرض بيوم واحد، استنكر بكل وجدانه ما بُثَّ على إحدى الفضائيات من أنه اخترع زعيم ثورة يوليو، ولم يأبه بكلام آخر على نفس الفضائية يستعجل رحيله هو. قال: «جمال عبدالناصر؟!». أردف استنكاره ببيت شعر، وهو رجل يحفظ الشعر ويستدعيه في كل مقام: «هانت حتى بالت عليها الثعالب».
قرب النهاية، تبدى كبرياؤه الإنساني رغم شدة المرض، أراد أن يعتمد على نفسه ولا يطلب مساعدة من أحد. لا يشتكي، ويواجه قدره رافعاً رأسه. بعد طول ممانعة، تقبل مساعدتي في تناول كوب ماء على «كومودينو» بجوار سريره لم يستطع من فرط التعب الوصول إليه. أراد أن يرحل على الصورة التي حرص عليها طوال حياته ورسم بدأب أدق تفاصيلها.
(٢)
كتب وصيته في ثماني صفحات، وديعة مغلقة عند رفيقة حياته. كان قد انتهى من كتابتها قبل أن يدلف إلى عامه السابع والسبعين في ٢٣ أيلول/سبتمبر عام ٢٠٠٠. ربما يكون قد أدخل عليها تعديلات في ما بعد. قال: «لنكن واقعيين، بعدد السنين، فأنا قرب النهاية ومستقبلي ورائي». بحسب ما جرى في ست عشرة سنة تالية لم يكن ذلك صحيحاً، فمستقبله كان أمامه، ومد الله في عمره ومنحه الهمة ليؤثر في حركة الحوادث بحضور الأفكار، لا بنفوذ السلطة. غلبت قوة الحياة روح الوصية، فيما أودعها نعياً مقتضباً وبسيطاً كتبه بنفسه، بلا أي ادعاء ولا مبالغة، لينشر في صفحات الوفيات بجريدة «الأهرام» عند رحيله. تعامل مع نفسه كواحد من عامة الناس، فمن يدري كيف تكون الظروف السياسية عند رحيله؟ كما أوصى بأن يوضع على قبره مسجل بصوت الشيخ محمد رفعت، يتلو آيات من الذكر الحكيم، الذي يحفظه عن ظهر قلب منذ أن كان صبياً صغيراً، ويرى في صوت الشيخ الجليل نفحة من السماء.
قال: «لو أن صوتاً لا يتقن التلاوة أو به نشاز قرأ القرآن على قبري، فإنني قد أموت فيها». التفت إلى المفارقة التي لم يكن يقصدها وعلت ابتسامة على وجهه بددت كآبة الحديث عن الموت.
لم يتوقع أحد أن يوصي بالصلاة على جثمانه في «مسجد الحسين» حتى فتحت وصيته. في اختيار المسجد نزعة صوفية رغم ثقافته المدنية. وفي اختيار الحي، انحياز لعراقة التاريخ والمكان الذي ولد فيه. من مفارقات الحياة والموت أنه على مدى النظر من المكان، الذي دفن فيه، مقابر أخرى لجنود دول الكومنولث، التي حاربت تحت العلم البريطاني في الحرب العالمية الثانية، فقد كانت بدايته المهنية تغطية وقائع المواجهات العسكرية في صحراء العلمين عام ١٩٤٢ لـ»الإيجيبشيان غازيت»، أول صحيفة عمل بها.
عبدالناصر وهيكل وبينهما نائب الرئيس حسين الشافعي
في ما تضمنته وصيته، ألا يقام له عزاء في دار مناسبات. راجعته في ما استقر عليه رأيه لمرات عديدة على مدى سنوات. قلت: «ليس من حقك يا أستاذ محمد أياً ما تكون أسبابك أن تصادر المشاعر الطبيعية عندما يحين الفراق، أو أن تحجب حق أسرتك في التعزي». لم يعلق مرة واحدة، وترك ذلك ــ رغم نص الوصية ــ لتقدير أسرته والظروف التي تطرأ. قرب النهاية، لم يأبه بالقيود المفروضة على حركته بعد عملية جراحية في عنق فخذه الأيمن إثر سقوط من فوق درج في الغردقة أثناء إجازة عيد أضحى. طلبت قرينته ألا يقترب منه أحد حتى تأتي سيارة إسعاف تنقله إلى أقرب مستشفى، خشية أن تؤدي أي حركة خاطئة لمضاعفات لا يمكن السيطرة عليها. حاول بقدر ما يستطيع أن تمضي الحياة على وتيرتها السابقة رغم مصاعب الحركة بـ»الووكرز»، الذي استعان به حتى يأمن أي مفاجآت. كان واضحاً أمام نفسه قبل الآخرين وهو يقول: «لا يهمني إن ظهرت صوري وأنا أمشي بالووكرز». تمنيت عليه أن أراه واقفاً على قدميه، أن يتحرك بحرية ويذهب إلى حيث يشاء دون أي وسائل مساعدة. قال: «أنا أستطيع الآن، لكن لا تنس أنني في سنٍ، السقوط فيه محتمل بأي لحظة ولأي سبب طارئ».
كان اعتقاده أنه طالما يجلس على مكتبه، يقرأ ويعمل ويحاور ويساهم في السجال العام وتخفيف أعباء التحول إلى المستقبل، فإنه لا شيء يهم. في تلك الظروف خطر له أن يطل على الأندلس بعد ثلاثين سنة من آخر زيارة وذكرياته فيها لا تغادر مخيلته. كانت أجراس الزمن تدق في المكان مرحبة باقتراب عام ٢٠١٦. بدا مسحوراً بجمال الأندلس وإرثه الحضاري كأنه يراه للمرة الأولى. في كل مكان أثر جليل من تاريخ أمة عريقة ارتبكت هويتها وضاعت بوصلتها وجرفت نظرية أمنها القومي.
هل كانت مصادفة أن يختار الأندلس رحلة أخيرة؟ فكر في اليونان وأماكن أخرى لكن شيئاً ما دعاه إلى الأندلس، كأنها رحلة وداع لكل معنى أهدرناه.
من وداع في الأندلس، إلى الوداع في القاهرة، تداعى كالجبال في أيام قليلة. عندما بدأت نذر النهاية، اتصلت بي السيدة قرينته قائلة: «الأستاذ هيكل طلب أن يراك مرتين لكن حالته لا تسمح بأي لقاء... أردت أن أقول لك ذلك حتى أبرئ ذمتي أمام الله وأمامه». لم أكن أعرف وأنا أنحني على جبينه مقبلاً، وهو على سرير مرضه الشديد، أنه اللقاء الأخير.
(٣)
عندما بلغ الثمانين من عمره عام (٢٠٠٣) كشف في مقاله الأشهر «استئذان في الانصراف» أن «السرطان» قد زاره. وكانت تلك شجاعة اعتراف أمام الرأي العام.
زيارة «السرطان» استدعت تدخلاً جراحياً خريف ١٩٩٩ في «كليفلاند كلينك» بالولايات المتحدة، استؤصلت فيها كلية وحالب وقمة المثانة على الجانب الأيسر.
في فبراير ٢٠٠٨ زاره «السرطان» مرة أخرى أثناء إجازة عيد أضحى في الغردقة. من المفارقات أن المكان نفسه ــ الغردقة ــ، في المناسبة نفسها ــ إجازة عيد أضحى ــ، شهد واقعة السقوط من فوق درج بعد ست سنوات.
بدأت الأزمة بظواهر قصور في الدورة الدموية «كدت أروح فيها» ــ على ما قال لي مساء ذات اليوم الذي عاد فيه إلى القاهرة قاطعاً إجازته في الغردقة. طال الحديث في صالون بيته بأكثر مما تحتمل حالته الصحية، حتى دخل عبدالمنعم، ساعيه الخاص، برسالة قرأها مبتسماً ووضعها أمامي. كانت قرينته تدرك أن مثل تلك الأحاديث في الصحافة والسياسة تساعده في مقاومة المرض، وتدرك في الوقت نفسه أن طول مدتها يؤثر في صحته. بكلمتين لخصت الموقف الصعب بين ما يهوى وما يضر: «محمد.. لقد وعدتني». ثم كان رأيه بعد التحكم في الأزمة أن ينتظر قدوم الربيع للسفر للولايات المتحدة لإجراء فحوص أخرى، ومقابلة طبيبه المعالج في بوسطن، غير أن ذلك الطبيب أبلغه أنه مستعد للقائه الآن، وإذا لم يكن ذلك ممكناً، فإن الموعد سوف يتأجل إلى أيار/مايو، وهكذا كان القرار إجبارياً... السفر الآن. في بوسطن، تردد يومياً على أحد مستشفياتها، لكنه لم يضطر إلى المبيت فيها يوماً واحداً. وقد استبقاه الأطباء، وهو يتأهب للعودة، لإجراء اختبار إضافي للحساسية والتأكد من سلامة الفحوص الأخيرة. كلما كان بوسعه أن يتحدث، فالأحوال المصرية هي شاغله الأول. عندما أخضِع لتدخل جراحي بالأذن في أحد مستشفيات مدينة فرايبرغ الألمانية في آذار/مارس ٢٠٠٩، بادر فور تعافيه النسبي بالسؤال عما يحدث في مصر خشية أن يكون فاته حدث جوهري، أو تطور طارئ. لم يكن يميل للإفراط في المجاملات ولا المراثي. أين القيمة؟ ذلك سؤاله وتلك أولويته. الإفراط بغير منطق يأخذ من المعنى حرمته ومن الكلام احترامه. أحد مصادر قوته أن الماضي لم يكن يقيّد نظرته إلى المستقبل. «لا يمكن أن تنظر إلى المستقبل وتفكيرك مقيّد بالماضي». «للماضي أهميته بقدر ما يشير إلى معنى لا يصح إهداره وخطأ لا يجوز تكراره». «عزيزي عبدالله... دعني أصارحك بأمانة أن مأزق مصر الراهنة، ومن جميع الاتجاهات السياسية الظاهرة، أن الجميع فيها يحاربون معارك أزمنة مضت، بعضها فيه ما يستحق طول الذكر، وبعضها الآخر فيه ما يستحق سرعة النسيان، وبعضها ترك مبادئ أساسية لها قيمتها واحترامها، لكنه من الضروري أن يختلف تعبيرها عن نفسها بحركة الحقائق والظروف. والمشكلة أن الكل منهمك في حروب الماضي، مقبل عليها كطلقات رصاص من فوهة سلاح مصوب لسوء الحظ إلى وراء وكان يجب أن يكون إلى أمام». كانون الأول/ديسمبر ٢٠٠٠. من هذا المنظور، حاور أكثر من أي أحد آخر في هذا البلد، الأجيال الجديدة. كل الأسماء التي برزت بعد «يناير» وأثناء «يونيو» التقته في مكتبه. استمع بلا وصاية لأحلام تولد وأفكار تبحث عن تجربتها، أراد أن يرى الصورة التي يمكن أن يكون عليها المستقبل بعده. قبل أن يدخل في تعقيدات المرض الأخير، طلب من الرئيس الإفراج عن الشباب الموقوفين وفق قانون التظاهر. في الطلب انحياز إلى المستقبل ودعوة إلى فتح صفحة جديدة لا تحجب حركة إلى الأمام. إرث هيكل، هنا بالضبط، في اتساع نظرته إلى المستقبل، وفي ما خلّفه وراءه من رؤى في الأمن القومي والفكر السياسي والتأريخ للصراع على مصائر المنطقة، هو نفسه لخص تجربته بـ»عمر من الكتب». وديعته في كتبه وإرثه في مدرسته.
مع الأستاذ
لم يكتب سيرة ذاتية، ولا كان وارداً في تفكيره أن يكتبها، فكل ما أراد أن يتركه أشار إليه في كتاباته وكتبه، أو أودعه على شرائط مسجلة بثتها محطة «الجزيرة» في برنامجه «سيرة حياة»، ونصوصها فُرغت على ورق وضبطت صياغتها لتكون صالحة للنشر، وقد راجعها بنفسه. على عكس ما اعتقد كثيرون أنه سوف يخلّف وراءه سيرة مكتوبة بأسلوبه لجمال عبدالناصر، فإنه كان على يقين طوال الوقت أن هناك قضية واحدة تستحق أن تترك وديعة عند أصحاب الحق في المستقبل، أن يعرفوا ماذا جرى في مصر وحولها، وأين كانت معاركها ولماذا يراد أن تتكرس فيها ثقافة الهزيمة؟ قبل رحيله بثلاث سنوات، عرضت عليه دار «هاربر كولينز» البريطانية، التي تتولى نشر الطبعات الدولية من كتبه، أن يكتب كتاباً جديداً عن «الربيع العربي» مقابل مليون جنيه إسترليني. شرع في زيارات خارجية ابتدأها بلبنان للحصول على وثائق يؤكد بها روايته للحوادث العاصفة التي جرت، وكان لديه ما يقوله جديداً وموثقاً. أثناء تلك الزيارة، ظنّ الإعلام العربي كله أنه قدم إلى بيروت للتوفيق بين الفرقاء اللبنانيين حيث التقى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس المجلس النيابي وقادة التيارات والأحزاب الرئيسية بلا استثناء تقريباً. سألني: «ما رأيك؟». قلت: «إن الكتاب سوف يستغرق وقتاً طويلاً وجهداً مضنياً وزيارات إلى عواصم بحثاً عن وثائق ولقاءات مع مصادر تستقصي خلفيات ضرورية لفهم ما جرى، وذلك كله مرهق وسوف يعطل حضورك العام في لحظة تحول مصيرية». قال: «هذا أيضاً رأي هدايت»، قاصداً السيدة قرينته التي خشيت عليه من أي جهد زائد. «لا أعرف كيف يمكن للأجيال السابقة واللاحقة أن تعرف كثيراً من الحقائق التي حجبت، أو أخفيت عمداً، أو نتيجة عدم الاكتراث، لولا ما نشره هيكل؟!»... هكذا كتب الأستاذ سلامة أحمد سلامة، الذي تميّز بعقلانيته وموضوعيته في الاقتراب من الظواهر السياسية، وقد كان هيكل ظاهرة فريدة يصعب كتابة تاريخ مصر المعاصر دون التطرق إليها والتوقف عندها، فقد كان دائماً هناك حيث التاريخ يتحرك.
نقلا عن الأخبار