في الوقت الذي انتشر فيه تنظيم "داعش" بوتيرة سريعة في كل من العراق وسوريا في 2014، تآكلت مساحة سيطرته بشكل متسارع في 2016، ما يدفع إلى التساؤل حول البؤرة القادمة التي سيتوجه لها عناصره بعد طرده من العراق والشام.
فالتنظيم الإرهابي استغل الارتخاء الأمني في العراق، سواء المقصود أو غيره، وحالة الحرب متعددة الأطراف، في سوريا، للسيطرة على مساحات شاسعة في البلدين، بسرعة قياسية، بما فيها آبار نفط عديدة، شكلت مورداً مالياً مهماً للتنظيم، ساهم في قيام "دولته"، وبقائها إلى اليوم ، بحسب وكالة "الأناضول" التركية.
إلا أن تلك المعطيات التي مكنت التنظيم من خلق تلك "الدولة" بتلك السرعة، هي ذاتها التي تشير إلى إمكانية زوالها، في وقت لا يقل سرعة، خصوصاً في ظل عمل جدي من أطراف داخلية وإقليمية ودولية، على إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة.
وبالفعل، فقد خسر التنظيم 50% من مساحاته في العراق، و20% منها في سوريا، قبل أن يتم العام الثاني من سيطرته عليها، وذلك بحسب تقرير لمجلة "ميليتاري تايمز" الأمريكية، المختصة بالشؤون العسكرية والاستراتيجية، صدر في منتصف مايو 2016.
وفي يناير الماضي، تم للقوات العراقية تحرير الجانب الشرقي من مدينة الموصل (شمال)، وهي التي تعد مركز الثقل الأساسي للتنظيم في العراق، ومنها أعلن تنصيب قائده، أبو بكر البغدادي؛ "خليفة" للمسلمين.
أما في الجانب السوري، وبالرغم من تعقيد المشهد هناك، إلا أن التنظيم تراجع كذلك، وبشكل كبير، حيث حقق الجيش السوري الحر، تقدماً على حسابه في أكثر من جبهة، خصوصاً في ريف حلب الشمالي، حيث يلقى دعماً من الجيش التركي، في إطار حملة "درع الفرات"، التي انطلقت في أغسطس الماضي.
وتختزل مدينة "تدمر"، وسط سوريا، قصة ظهور التنظيم، حيث سيطر "داعش" على المدينة في مايو 2015، بعد عامين من الصراع عليها بين المعارضة المسلحة والنظام، ثم استعادها الأخير بدعم من الطيران الروسي في مارس2016، قبل أن يعود التنظيم للسيطرة عليها في ديسمبر 2016، في غمرة انشغال النظام وروسيا بمعركة حلب.
يدفع ذلك المشهد، للتساؤل عن خيارات عناصر التنظيم، بعد سقوط مشروعهم في سوريا والعراق، آخذاً بالاعتبار حرصهم على عدم الاستسلام، وقدرتهم الفائقة على الانتقال من منطقة لأخرى، وبين الدول، بما فيها تلك التي تبعد آلاف الكيلومترات.
العودة إلى بلدانهم
وهو الخيار الذي تتخوف منه أوروبا، وتتخذه روسيا ذريعة، من بين عدة ذرائع، لتدخلها العنيف في الأزمة السورية، المستمر منذ سبتمبر 2015.
وأظهرت عدة تقارير دولية، من أهمها تقرير صحيفة "ذي تيليغراف" البريطانية، نشرته قبل أيام، قدوم الآلاف من عناصر التنظيم من بلدان أوروبية ووسط آسيوية، عدا عن روسيا والصين، وغيرها.
ويظهر التقرير تصدّر فرنسا وروسيا، اللتين صدّرتا معاً قرابة ألفين و500 مقاتل إلى سوريا والعراق منذ بداية الأزمة، فيما تصدرت بلجيكا عدد المقاتلين مقارنة بعدد السكان، بواقع 40 مقاتلا في "داعش" عن كل مليون نسمة، وبمجموع 440 مقاتل بلجيكي.
وحدث بالفعل أن نفذت عناصر مرتبطة بالتنظيم أعمالاً إرهابية في فرنسا وبلجيكا، في العامين المنصرمين، إلا أن اتخاذ التنظيم لقرار استراتيجي بالتخلي عن مشروع إقامة "الدولة"، والاكتفاء بالقيام بهجمات في الدول الغربية، سيفقده العنصر الذي ميزه عن تنظيم "القاعدة"، وفق ما أكد الباحث والخبير السوري، الدكتور "سنان حتاحت"، في حوار مع الأناضول، أمس الأول السبت.
زعزعة أمن المنطقة
نشرت مجلة "ذي إنترسيبت" الأمريكية، تحقيقاً، في يونيو 2015، حول ضلوع عناصر من حزب "البعث" العراقي، في إدارة وتحريك "داعش"، ذكرت من بينهم "سمير عبد محمد الخليفاوي"، المعروف بـ"حجي بكر"، الذي كان ضابطاً في الاستخبارات التابعة للرئيس العراقي الراحل، صدام حسين.
كما تحدث التحقيق عن دور ما كان يعرف بـ"جيش المجاهدين"، الذي ضم عدداً من الجماعات المسلحة في العراق، التي تشكل أغلبها من بقايا الجيش العراقي السابق، في قيام ما عرف بـ"دولة الإسلام في العراق"، النواة الأساسية لـ"داعش" بشكله الحالي.
من جانب آخر، نشرت مجلة "فيننشالتايمز" البريطانية، في أكتوبر 2015، تقريراً مفصلاً عن دور حقول النفط، التي سيطر عليها "داعش"، في شرقي سوريا، في تمكينه من تحقيق قفزته الكبرى عام 2014، من حيث التسليح واستقطاب المقاتلين من الخارج.
تشير تلك المعطيات إلى وجود ارتباط يصعب تفكيكه بين "داعش" والمنطقة، الأمر الذي قد يفرض عليه البقاء فيها والاستمرار بالتنقل داخلها، واللعب على الخلافات العرقية والمذهبية فيها، وربما السعي لإقحام دول إقليمية أخرى لإطالة أمد الفوضى، وبالتالي تعزيز فرص بقائه.
وهذا الخيار هو الذي ذهب إلى ترجيحه الدكتور "حتاحت"، الذي قال إن ما أسماها "القيادات المحلية" للتنظيم، ستعزز خيار البقاء في المنطقة، دون أن ينفي احتمال أن يلجأ التنظيم إلى خيارات أخرى في الوقت نفسه، ولكن باهتمام أقل.
وحذر "حتاحت"، بناءً على ذلك، من أن نشهد في الفترة المقبلة تصاعداً في مساعي التنظيم لـ"نقل الفوضى والعمليات الانتقامية لدول الجوار".
وأكد على أن التنظيم، أو "تطورات فكره التي تزداد شذوذاً"، لن تنتهي بمجرد بفقدانه الأرض في في سوريا والعراق، مشيراً إلى أنه سيستمر بالنشاط هناك "ما دام تهميش السنة (في المنطقة)، على الصعيد السياسي والاقتصادي، مستمر".
الانتقال إلى بؤر صراع أخرى
رجح الباحث الألماني المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، ألبريشت ميتسغر، في حديث لصحيفة "دويتشه فيله" الألمانية، في يونيو الماضي، أن يقوم عناصر التنظيم الإرهابي، أو بعض قياداته، بالتمركز في ليبيا أو أفغانستان، وذلك "لقدرة التنظيم هناك على إعادة الانتشار وتوفير الحاضنة".
ومما يعزز فرص التنظيم في ليبيا، ثراؤها بالنفط وقربها من أوروبا، وأهميتها بالنسبة للقارة العجوز، لتحولها إلى منطلق لمئات آلاف اللاجئين العابرين إلى شواطئها من إفريقيا والشرق الأوسط، الأمر الذي قد يجر دولها إلى مستنقع ليبي يجد فيه التنظيم فرصته للاستمرار.
بالرغم من أن داعش، تلقى ضربة قوية في ليبيا، بعدما تم طرده من معقله الرئيسي في مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس)، والبلدات التي كان يسيطر عليها في المنطقة على طول 250 كلم، على غرار بن جواد والنوفلية وهراوة، في ديسمبر 2016، بالإضافة إلى طرده من مدن درنة (1340 كلم شرق طرابلس)، وصبراته (70 كلم غرب طرابلس)، وبنغازي (ألف كلم شرق طرابلس) في الفترة ما بين 2015 وبداية 2017، لكن عناصره فرت إلى شعاب الصحراء الليبية خاصة في الوديان القريبة من بلدة بني وليد (جنوب شرق طرابلس) أين تعرضت لضربة جوية أمريكية مركزة قضت على نحو 80 عنصرا من التنظيم.
وفي أفغانستان، يتشابه الوضع هناك مع سوريا والعراق، حيث تتواجد أقلية شيعية (10-12%)، وتوجد حاضنة ناقمة على الغرب والحكومة المحلية والدول المحيطة، ويوجد تاريخ لـ"الجهاد" فيها، وقد يسعى التنظيم لاستثمار جميع تلك العوامل لصالحه، وهو بالفعل ما بدأ به، حيث يركز جناحه في أفغانستان، "ولاية خراسان"، على استهداف أقلية "الهزارة" الشيعية هناك (تتركز في منطقة هرات غربي أفغانستان على الحدود مع إيران)، في سعي واضح لتأجيج التوتر الطائفي.
ولكن الباحث الألماني، ميتسغر، ذهب إلى التأكيد على أن فقدان التنظيم لفرصه بإقامة "دولته" في سوريا والعراق، واتخاذه قراراً استراتيجياً بالانتقال إلى مساحة أخرى، سيشكل نقطة البداية للسقوط النهائي للتنظيم ولمشروعه وأفكاره.