المفارقة في السودان الذي يصفه أهله بأنه "سلة غذاء العالم"، نظير موارده الطبيعية الهائلة، هي تفشي مرض "الدرن" المترتب بالأساس على سؤ التغذية.
ولفهم كيف يتفشى مثل هذا المرض في بلد يملك 200 مليون فدان صالحة للزراعة وأكثر من 100 مليون رأس من الماشية، لا يتطلب الأمر سوى تتبع سيرة حروبه الأهلية ، بحسب وكالة "الأناضول" التركية.
هذه النزاعات الدموية، المتنقلة من منطقة إلى أخرى ومن عقد إلى آخر، على مدار 60 عاما من استقلال البلاد، جعلت ميزانيتها على الدوام "ميزانية حرب" وليس تنمية.
واليوم بينما لا تكشف الحكومة لدواعي السرية عن إنفاقها العسكري والأمني الذي يقدره خبراء بأكثر من نصف الموازنة، فإن ميزانية الصحة وفقا لأرقام رسمية لم تتجاوز في السنين الماضية حاجز الـ 2 %.
وإن كانت تبعات الحرب حاضرة بشكل أو آخر في كل أنحاء البلاد، إلا أنها تبقى أشد وطأة في مناطق النزاعات، حيث التشرد والجوع والأمراض الملازمة له مثل الدرن.
وقبل أيام أطلقت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف) نداء لجمع 110 ملايين دولار لصالح أطفال السودان، لا سيما في مناطق النزاعات.
وأفادت الوكالة الأممية إن "مليوني طفل بالسودان دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية الحاد بينما يعاني 550 آلاف من سوء التغذية الحرج".
وهولاء الأطفال طبقا لـ(يونسيف) يمثلون "13 % من جملة الأطفال الذين يعانون من سؤ التغذية الحاد والحرج في أفريقيا".
وطبيا،فإن سؤ التغذية بمرحلتيه الحادة والحرجة من العوامل المساعدة على الإصابة بالدرن، وهو مرض معدي ينهك في الغالب الجهاز التنفسي.
وسجلت البلاد 6 ألف حالة إصابة بهذا المرض الجرثومي وفقا لآخر حصيلة أعلنها البرنامج القومي لمكافحة الدرن (حكومي) في العام 2014.
وتتركز هذه الحالات في الخرطوم وهو ما ترده سارة سر الختم من إدارة مكافحة الأمراض بوزارة الصحة إلى "الكثافة السكانية العالية ( 9 مليون نسمة) بجانب طلب الخدمة في العاصمة رغم توفرها في كل ولايات السودان".
وأضافت سر الختم إن هناك 250 مركز علاجي موزعة على ولايات البلاد البالغة 18 ولاية.
ورغم الجهود الحكومية التي تشير إليها المسؤولة الصحية إلا أن الواقع في مستشفى "أبو عنجة"، وهو مستشفى مرجعي للمرض بالخرطوم، يبدو مختلفا.
و أول ما يلفت نظر الزائر تردي الوضع البيئي الذي تقر به إدارته التي تشكو أيضا من "ضعف التمويل".
المستشفى الذي شيد في ثلاثينيات القرن الماضي إبان الاستعمار الإنجليزي للبلاد، وكان واحدا من أكبر المستشفيات المرجعية في أفريقيا والشرق الأوسط، لم يشهد أي عملية تحديث تذكر لبنيته التحتية.
فجدران المشفى المشيدة من اللبن متصدعة، والمرضى موزعون على عنابر متسخة، مع أكوام من النفايات متناثرة في باحته وبعضها معدات طبية متهالكة.
يتجسد وضع المستشفى في قول مديره محمد سيد أحمد "لو قلتم لي إن المستشفى عبارة عن زبالة لقلت: نعم".
ويشكي سيد أحمد من أن "ميزانية المستشفى لا تتجاوز شهريا 73 ألف جنيه (10.8 ألف دولار) وعادة ما تنفق في الوجبة المجانية المقدمة للمرضى وننتظر بعدها الإعانات والمبادرات الأهلية".
وسُلطت الأضواء على المشفى خلال الأشهر الماضية عندما أُسعف إليه الفنان الشاب شول منوت الذي نقلت عنه وسائل إعلام محلية إنه " اضطر للنوم على الأرض لثلاث ليال".
وفي ظل هذه الأوضاع تكابد إدارة المستشفى لعلاج مرضاها لكن يعيها نوع آخر من المرض هو "الدرن المقاوم" حيث لا يستجيب المصابين به للعلاج.
وقالت مدير إدارة مكافحة الأمراض بوزارة الصحة سارة سر الختم، أن هناك "70 مريض تقريبا تم تشخيصهم بالدرن المقاوم وكلهم يخضعون حاليا للعلاج".
وأشارت إلى أن وزارتها "أدخلت 10 أجهزة جديدة في 9 ولايات للمساعدة في اكتشاف حالات الدرن المقاوم للأدوية".
ومعدل النجاح في علاج الدرن المقاوم تبقى في حدود 65 % لكن سر الختم "تتطلع إلى أن تصل النسبة 90 % " بعد دخول المعدات الجديدة.
بالنسبة إلى الهادي آدم أحد المرضى فإنه "رغم العلاج المجاني إلا أن تردي أوضاع المستشفى تبطئ علاج عدد كبير من المرضى".
لكن مبلغ "المأساة" كما يحدثنا أحد الأطباء مفضلا حجب اسمه إن "بعض العنابر أُغلقت خشية سقوطها على رؤوس المرضى".