سيطرت مسألة العلاقات المصرية - الخليجية على المناخ العربي العام في الشهور الأخيرة بعد أن ظهرت بعض السحب العابرة في العلاقات الثنائية بين مصر والمملكة العربية السعودية، أكبر دول الخليج العربي وأهمها، ولقد أدى ذلك إلى حوارات سياسية ومناقشات ديبلوماسية وتراشقات إعلامية عكست إلى حد كبير طبيعة الأخطار التي تحيط بالمنطقة وتستهدف العرب بالدرجة الأولى لأن محور القاهرة – الرياض له أهميته في التوازن العربي والاستقرار القومي، ولقد تابعت الإعلام المصري وكتابات الصحافة السعودية وخرجت من هذا وذاك بملاحظات أود أن أسوقها للقارئ لكشف المسكوت عنه وإيضاح الحقائق أمام أبناء الخليج ومصر.
ولقد قرأت أخيراً مقالاً للدكتور خالد الدخيل الكاتب والأكاديمي السعودي المرموق في هذه الصحيفة الغراء وهو يقتحم جزءاً من المسكوت عنه بالحديث عن مفهوم «الدولة القاعدة» وتراجع ذلك الطرح التقليدي على مدار العقود الأخيرة، وشعرت في ما يكتب ذلك الكاتب المتميز بإشارات غير مباشرة إلى مصر واتفقت في بعض ما هدف إليه واختلفت في البعض الآخر ولكنني في الحالتين قدرت له عمق فكره وسلامة منطقه، والآن دعنا نرصد بعض النتائج التي خرجنا بها من طبيعة العلاقات المصرية -الخليجية في الشهور الأخيرة لكي نرصد منها ما يلي:
أولاً: لقد أثبتت أحداث الشهور الأخيرة وحدة دول الخليج العربي لأن عناصر الوحدة بين دول الخليج تسبق أحياناً وحدة المضمون العربي الشامل وتجعل من العلاقات الوثيقة بين دول الخليج سداً منيعاً يحول دون السماح لأي طرف، ولو كان عربياً، بوجود مكان بينهم إلا بتوافق آرائهم، أقول ذلك وأنا أرى أن كل دول الخليج مضت وراء الموقف السعودي تجاه مصر في الآونة الأخيرة ولو بدرجات متفاوتة وقد اتضح لمصر ولغيرها أن العلاقات الخليجية ــــ الخليجية تعلو على العلاقات العربية ـــ العربية ولا بأس في ذلك، إذ إن درجة التجانس السكاني بينها والتوحد الثقافي والمسار التاريخي يجمع بينها تحت رايات العروبة على نحو يعطيها خصوصية ليست متاحة لغيرها، وفي ظني، مرة ثانية، أنه ليس في ذلك ما يزعج، فتجانس المجموعة الإسكندنافية في الاتحاد الأوروبي لا يعني خروجها عن الصف الأوروبي باعتبارها تجمعاً إقليمياً له ذاتيته وشخصيته، كما أن «وحدة وادي النيل» لم تكن متعارضة مع عروبة مصر ولا الاتحاد المغاربي متعارضاً مع عروبة شمال إفريقيا ولا حتى تجمّع الهلال الخصيب ووحدة سورية الكبرى كان يمكن أن ينتقص من عروبة الشام، فنحن إذن نرى في مجلس التعاون الخليجي النموذج الأنجح بين التجمعات العربية ولكنني أشعر أحياناً أنه يركز على ذاتيته الإقليمية أكثر من انتماءاته القومية إلى الفضاء العربي الواسع.
ثانياً: لقد كان من نتائج النقطة الأولى أنه ظهرت بعض الإرهاصات التي تختزل مفهوم العمل العربي المشترك في مجلس التعاون الخليجي، وظهر ذلك جلياً في تحوله إلى كتلة تصويتية ذات توجه واحد وغير قابل للانقسام أو حتى الاختلاف أمام الآخر ولو كان عربياً! وعندما ابتعدت المملكة العربية السعودية، ولو مرحلياً، عن مصر تبعتها دول الخليج العربي بلا تردد على رغم حبها التاريخي لمصر وارتباط (دول الخليج) بها بل تأرجحت مواقف بعضها بين الانتماء الخليجي وبين تعاطفهم مع ظروف مصر الراهنة خصوصاً أنها الدولة العربية التي تضامنت مع قضايا الخليج العربي تاريخياً وشاركت في الدفاع عن دوله في كل الظروف.
ثالثاً: إن العلاقة بين مصر ودول الخليج علاقة عضوية ذات أبعاد تاريخية وثيقة وجغرافية متقاربة فضلاً عن الجانب الروحي الذي يربط مصر بمهبط الرسالة ومنزل الوحي في المملكة العربية السعودية، ولقد أدركت مصر هذه الحقيقة عبر تاريخها كله فشعرت بمسؤولية قومية تجاه الخليج العربي ودوله الشقيقة، لقد وقف عبد الناصر مع استقلال الكويت إبان حكم عبد الكريم قاسم في العراق ووقف معها مبارك بلا تردد أثناء الغزو العراقي، بل إنني أتذكر من عملي مع الرئيس المصري الأسبق أنه قد استمزج الدول الشقيقة في الخليج قبل قبوله الانضمام إلى مجلس التعاون العربي الذي ضم العراق والأردن واليمن ومصر، وتحمست يومها القيادة السعودية لوجود مصر في ذلك الاتحاد لأن انضمامها، على حد تعبيرهم حينذاك، سوف يحمي ذلك الاتحاد من أية تجاوزات قد تمس أمن بعض دول الخليج، وكان حدس القيادة السعودية صائباً بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك الراحل فهد بن عبد العزيز فقد رفضت مصر تشكيل قوة جوية مشتركة لدول مجلس التعاون العربي كان يمكن أن تتورط في غزو الكويت حتى وإن لم يكن بشكل مباشر وتحت مظلتها على الأقل، ومسؤولية مصر القومية لا تسمح لها بالعدوان على دولة شقيقة خصوصاً من دول الخليج العربي التي اعترف أنها ردت لـمصر الجميل دائماً، دعماً اقتصادياً، وعمالة بشرية، وعلاقات أخوية.
رابعاً: لم تتردد مصر، ولن تتردد، في حماية أية دولة خليجية تتعرض لعدوان خارجي لأن ذلك التزام تفي به شريطة التنسيق السياسي والعسكري قبل الدخول في تدابير ميدانية لأن تحريك الجيوش ليس أمراً سهلاً ولا نزهة قصيرة، والجيش المصري جيش كبير، هو واحد من أكبر عشرة جيوش في العالم من واقع التصريحات الدولية للخبراء العسكريين العالميين، يتحمل مسؤولية القرار الذي يتخذه ويؤمن بوحدة الجيوش الخليجية معه دعماً لسلامة المنطقة ضد التحرشات الأجنبية سواء كانت فارسية أو إسرائيلية أو تركية أو أية قوى أجنبية أخرى، وعلى أشقائنا في الخليج أن يدركوا، كما ندرك نحن أيضاً، أن الإرهاب يستهدفهم مثلما يستهدفنا، وأننا في قارب واحد فإما أن ننجو جميعاً أو يصيبنا المكروه جميعاً أيضاً لاقدر الله.
خامساً: إن الأمواج المتلاطمة والسحب العابرة يجب ألا تشوه على الإطلاق مكونات العلاقة الإستراتيجية بين دول الخليج ومصر، ولا ينبغي أن ينظر المصريون إلى دول الخليج باعتبارها أوعية ثروة نفطية تلجأ إليها مصر أحياناً طلباً للدعم المادي في الظروف الصعبة كما يجب ألا ينظر الخليجيون إلى مصر باعتبارها دولة كبيرة يعاني شعبها ظروفاً اقتصادية صعبة ويفسرون كل تصرف لها نحوهم أنه مدفوع الأجر، إن هذا أمر لا يتسق مع الكرامة القومية المشتركة ويغذي حساسيات سلبية ويسحب من رصيد الثقة المتراكمة بين الجانبين عبر حقبات التاريخ وعصوره المختلفة، ولا يجب اختزال العلاقة بين (البر المصري) و(البر الخليجي) في بعض سياسات محمد علي التوسعية أو مواقف عبد الناصر القومية، إذ إن من دهاء التاريخ أنه يجعل دائماً لكل عصر أفكاره ورموزه وأيضاً قادته لذلك يجب ألا نسمح بتسميم الأجواء حولنا أو تعكير المياه بيننا، فالأمن القومي مشترك مهما اختلفت المسميات كما أن الغايات واحدة في نهاية الأمر.
إنني قصدت من هذه الملاحظات الخمس السابقة أن أوقف محاولات سكب الزيت على النار وتأكيد أن النوايا الطيبة هي القادرة على التحليق فوق الخلافات، كما أنني أحذر كل الأطراف من الشطط في اتخاذ بعض الإجراءات غير الودية أو فتح أبواق إعلامية غير مسؤولة لأن الخلافات عابرة ومرحلية وقابلة للحل وليست متجذرة في أعماق التاريخ المشترك، لذلك فإننا نسعى جميعاً إلى الخروج من هذه المرحلة لأن المحور السعودي - المصري حاكم في إطار العمل العربي المشترك وتأكيد هيبة الأمة، ويكفينا ما جرى في سورية وقبله في العراق وما يحدث في اليمن وليبيا كما أننا في أكثر الأوقات حاجة إلى التنسيق السياسي والتعاون الديبلوماسي أمام رئاسة أميركية جديدة تبدو بكل المقاييس رئاسة غير مسبوقة ذات توجهات مختلفة تقتضي منا حواراً عربياً ـــ عربياً وتشاوراً مشتركاً حتى لا تفاجئنا المواقف الجديدة ولا السياسات الوافدة على المنطقة من خارجها، ولندرك «أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
إنني أكتب هذه السطور معتزاً بالعلاقات المصرية الخليجية وحريصاً، أشد الحرص، عليها مؤمناً بأهميتها داعياً إلى حمايتها من أنواء الخريف العربي بعدما ودعنا الربيع بكل ما له وما عليه... دعونا نستعد التضامن العربي ونتجاوز الخلافات العابرة حتى لا نبكي جميعاً ذات يوم على اللبن المسكوب! ويكفي تاريخنا القومي ما حل به من نكبات ونكسات وأزمات، لقد رأت زرقاء اليمامة ذات يوم في الأفق الخطر قادماً ولو أنها كانت بيننا اليوم لدقت جرس الإنذار لكل الأطراف قبل فوات الأوان.