عمرو حمزاوي يكتب: المنفى

عمرو حمزاوي

متى‭ ‬تنتهي‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬اللعينة؟‭ ‬فرضت‭ ‬عليّ‭ ‬حياة‭ ‬المنافي‭ ‬كرها،‭ ‬وفرضتها‭ ‬ظروفي‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬رغما‭ ‬عنهم‭. ‬وفرضت‭ ‬مسارات‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬سعيت‭ ‬بينها‭ ‬واعيا‭ ‬شبكة‭ ‬علاقات‭ ‬إنسانية‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬حرية‭ ‬حركة‭ ‬دائمة‭ ‬لصونها‭ ‬ورعايتها،‭ ‬وفرض‭ ‬المنفى‭ ‬علينا‭ ‬من‭ ‬القيود‭ ‬ما‭ ‬يدمي‭ ‬المعصمين‭ ‬وينتقص‭ ‬من‭ ‬الحرية.

 

‬لسنا‭ ‬كمن‭ ‬هجروا‭ ‬أو‭ ‬رحلوا‭ ‬ودمرت‭ ‬بلادهم،‭ ‬ومازالت‭ ‬الشواهد‭ ‬على‭ ‬قبور‭ ‬الأهل‭ ‬حاضرة‭ ‬ولم‭ ‬تغب‭ ‬البيوت‭ ‬مقامة‭ ‬الجدران‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬حياة‭ ‬المنافي‭ ‬تشوهنا‭ ‬وتمعن‭ ‬في‭ ‬قتل‭ ‬إنسانيتنا‭ ‬كلما‭ ‬مضى‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬دقائقها‭ ‬وساعاتها‭ ‬المتثاقلة‭.‬

 

تجزع‭ ‬الحبيبة‭ ‬محقة‭ ‬لكون‭ ‬عملها‭ ‬يراوح‭ ‬بين‭ ‬المحدودية‭ ‬الشديدة‭ ‬والتوقف‭ ‬التام،‭ ‬وهي‭ ‬بين‭ ‬العلقمين‭ ‬إما‭ ‬ضحية‭ ‬لأجهزة‭ ‬أمنية‭ ‬متنفذة‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬لشهوتها‭ ‬الانتقامية‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬خارج‭ ‬عن‭ ‬الطوع‭ ‬أو‭ ‬لسوق‭ ‬فنية‭ ‬يتخوف‭ ‬بها‭ ‬أصحاب‭ ‬رأسمال‭ ‬من‭ ‬إغضاب‭ ‬المتنفذين‭. ‬

 

ومن‭ ‬بين‭ ‬ثنايا‭ ‬الجزع،‭ ‬يتسرب‭ ‬التذمر‭ ‬ويتسرب‭ ‬التشكيك‭ ‬في‭ ‬المغزى‭ ‬النهائي‭ ‬لدفاع‭ ‬عن‭ ‬حرية‭ ‬الأوطان‭ ‬ارتد‭ ‬إليها‭ ‬منتقصا‭ ‬من‭ ‬حريتها‭ ‬هي‭ ‬ومهددا‭ ‬لإبداعها‭ ‬ولاغيا‭ ‬لحقها‭ ‬في‭ ‬العمل‭. ‬ومحمولة‭ ‬على‭ ‬أجنحة‭ ‬التذمر‭ ‬والتشكيك‭ ‬البائسة‭ ‬تحوم‭ ‬أحلام‭ ‬العودة‭ ‬وترسم‭ ‬ملامح‭ ‬خلاص‭ ‬سحري‭ ‬لا‭ ‬خلاص‭ ‬به‭ ‬ولا‭ ‬سحر‭. ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬به‭ ‬سوى‭ ‬تقويض‭ ‬لحياة‭ ‬أسرية‭ ‬ها‭ ‬هي‭ ‬بالكاد‭ ‬تستقر‭.‬

 

يجزع‭ ‬الولدان‭ ‬المقيمان‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬بيت‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬الأبيض‭ ‬حين‭ ‬يتأخر‭ ‬مجيء‭ ‬الأب‭ ‬الذي‭ ‬ينصحه‭ ‬الأصدقاء‭ ‬من‭ ‬القانونيين‭ ‬والمحامين‭ ‬المتخصصين‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬الهجرة‭ ‬وإقامة‭ ‬الأجانب‭ ‬بعدم‭ ‬مغادرة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬حتى‭ ‬يتضح‭ ‬المدى‭ ‬الذي‭ ‬ستذهب‭ ‬إليه‭ ‬قرارات‭ ‬منع‭ ‬دخول‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭.

 

‬تتعطل‭ ‬لغة‭ ‬الكلام‭ ‬المرسلة‭ ‬مني‭ ‬إلى‭ ‬ولديّ،‭ ‬فأمتنع‭ ‬عن‭ ‬حديث‭ ‬الهواجس‭ ‬والمخاوف‭ ‬بشأن‭ ‬الظروف‭ ‬المحيطة‭ ‬بمكان‭ ‬عملي‭ ‬وإقامتي،‭ ‬وأتحجج‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يسمن‭ ‬من‭ ‬جوع‭ ‬لكي‭ ‬أبرر‭ ‬تأخري‭. ‬أتوقف‭ ‬عن‭ ‬التحجج‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬وأشرع‭ ‬في‭ ‬شرح‭ ‬ما‭ ‬يحيط‭ ‬بي،‭ ‬فأرى‭ ‬يافعين‭ ‬لهما‭ ‬من‭ ‬حظوظ‭ ‬المتابعة‭ ‬والفهم‭ ‬ما‭ ‬يغنيني‭ ‬عن‭ ‬كثير‭ ‬شرح‭. ‬ويبقى‭ ‬الجزع‭ ‬لغتنا‭ ‬المشتركة‭ ‬الوحيدة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أخبرهما‭ ‬بموعد‭ ‬قدوم‭ ‬محدد،‭ ‬وبطرحي‭ ‬الهواجس‭ ‬والمخاوف‭ ‬من‭ ‬قرارات‭ ‬ترامب‭ ‬الأبيض‭ ‬جانبا‭. ‬أوليس‭ ‬بآلام‭ ‬الارتحال‭ ‬القسري‭ ‬عن‭ ‬الأوطان‭ ‬وحياة‭ ‬المنافي‭ ‬ما‭ ‬يحصن‭ ‬ضد‭ ‬أغدار‭ ‬الزمن‭ ‬المقبلة؟

 

أستيقظ‭ ‬كعادتي‭ ‬مبكرا،‭ ‬وأجلس‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬الكتابة‭ ‬باحثا‭ ‬عن‭ ‬بدايات‭ ‬مختلفة‭ ‬لا‭ ‬تأتي‭. ‬فالنظر‭ ‬المدرب‭ ‬على‭ ‬تشريح‭ ‬الحقائق‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬تتراجع‭ ‬دقته‭ ‬بسبب‭ ‬البعد‭. ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬مراكمة‭ ‬إنتاج‭ ‬أكاديمي‭ ‬متميز‭ ‬وحصاد‭ ‬فكري‭ ‬يبقي‭ ‬على‭ ‬الاسم‭ ‬بعد‭ ‬الرحيل‭ ‬يحل‭ ‬محلها‭ ‬التساؤل‭ ‬الدائم‭ ‬عن‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬كتابات‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬الواقع‭ ‬المرير‭ ‬في‭ ‬بر‭ ‬مصر‭ ‬ولا‭ ‬قبل‭ ‬لها‭ ‬بفتح‭ ‬طاقات‭ ‬الإلهام‭ ‬في‭ ‬أجواء‭ ‬إحباط‭ ‬عام‭ ‬تنشرها‭ ‬إما‭ ‬الأزمات‭ ‬المعيشية‭ ‬الممسكة‭ ‬بالأغلبية‭ ‬أو‭ ‬أحلام‭ ‬التقدم‭ ‬المغتالة‭. ‬ثم‭ ‬أليس‭ ‬الإحباط‭ ‬هو‭ ‬شعوري‭ ‬الشخصي‭ ‬أيضا؟

 

تدنو‭ ‬خمسينياتي،‭ ‬وآمال‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬تصان‭ ‬بها‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬وتطرق‭ ‬أبواب‭ ‬حكم‭ ‬القانون‭ ‬وتداول‭ ‬السلطة‭ ‬وتغلب‭ ‬العقل‭ ‬والعلم‭ ‬والتسامح‭ ‬وقبول‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬الجنون‭ ‬والعنف‭ ‬والكراهية‭ ‬على‭ ‬ابتعادها‭ ‬المتسارع‭. ‬لا‭ ‬الفائدة،‭ ‬إذا،‭ ‬من‭ ‬تفكيك‭ ‬مرتكزات‭ ‬السلطوية‭ ‬الجديدة‭ ‬وكسر‭ ‬حاجز‭ ‬الصمت‭ ‬بشأن‭ ‬جرائمها‭ ‬وانتهاكاتها‭ ‬وإظهار‭ ‬تهافت‭ ‬السياسات‭ ‬الأمنية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬ينفذها‭ ‬الجنرالات‭ ‬وأعوانهم‭. ‬فسلطوية‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬2013‭ ‬جاءت‭ ‬لتبقى‭ ‬قمعا‭ ‬وقهرا‭ ‬ورغما‭ ‬عن‭ ‬الناس،‭ ‬واستغلالا‭ ‬لعالم‭ ‬ترامب‭ ‬وبوتين‭ ‬وتنظيم‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬‭ (‬داعش‭). ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الفائدة‭ ‬المرجوة‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الزاد‭ ‬المعرفي‭ ‬والتحليلي‭ ‬لمن‭ ‬يواصلون‭ ‬دون‭ ‬هوادة‭ ‬المقاومة‭ ‬السلمية‭ ‬للقمع‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬الطلاب‭ ‬والعمال‭ ‬والشباب،‭ ‬ويرفضون‭ ‬التنازل‭ ‬عن‭ ‬أحلام‭ ‬التقدم‭ ‬وآمال‭ ‬التغيير؟‭ ‬مخلصا،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭.‬

 

ترى‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬ستفقدني‭ ‬إياه‭ ‬حياة‭ ‬المنافي‭ ‬بالغد؟‭ ‬غير‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬جزع‭ ‬الحبيبة‭ ‬وجزع‭ ‬الولدين‭ ‬وشكوكي‭ ‬في‭ ‬القيمة‭ ‬الفعلية‭ ‬لما‭ ‬تعلمته‭ ‬كعمل،‭ ‬غير‭ ‬بعيد‭ ‬عنهم‭ ‬يطل‭ ‬القلق‭ ‬على‭ ‬إنسانية‭ ‬تقتل‭ ‬يوميا‭. ‬يصطنع‭ ‬المنفى‭ ‬بداخلنا‭ ‬وحوشا‭ ‬صغيرة‭ ‬وكبيرة،‭ ‬لا‭ ‬نتوقف‭ ‬عن‭ ‬الركض‭ ‬العشوائي‭ ‬لتوفير‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬لنا‭ ‬متطلبات‭ ‬حياة‭ ‬آمنة،‭ ‬نتملص‭ ‬من‭ ‬الاعتراف‭ ‬بكون‭ ‬التقلبات‭ ‬التي‭ ‬أفضت‭ ‬إلى‭ ‬الإبعاد‭ ‬والنفي‭ ‬بددت‭ ‬دون‭ ‬رجعة‭ ‬وهم‭ ‬الحياة‭ ‬الآمنة‭. ‬وفي‭ ‬الركض‭ ‬ينغلق‭ ‬الوجدان‭ ‬على‭ ‬خواء‭ ‬يميت‭ ‬الجمال‭ ‬ويسفه‭ ‬الحب‭ ‬وينقض‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬ويعطل‭ ‬لغة‭ ‬الكلام،‭ ‬ولا‭ ‬يبقي‭ ‬سوى‭ ‬على‭ ‬ذاكرة‭ ‬غائمة‭ ‬لأيام‭ ‬لم‭ ‬تمر‭ ‬هكذا‭.‬

مقالات متعلقة