رغم حساسية منصبه كواضع ومنفذ للسياسة النقدية بالبلاد، وهو ما يتطلب منه أن تكون كلماته بحساب شديد لتأثيرها على السوق والاقتصاد المصري بشكل عام، إلا أن طارق عامر، محافظ البنك المركزي المصري، لا يلقي لمثل هذه الحساسية بالا، إذ لا يتوانى عن الظهور الإعلامي وإطلاق التصريحات المثيرة، بل وصل الأمر إلى إطلاق النكات.
ومن المعلوم اقتصاديا أن منصب محافظ البنك المركزي في أي دولة في العالم هو من أكثر المناصب حساسية، وذلك بحكم التأثير الشديد للقرارات والتصريحات على الاقتصاد، ولعل المصرفي العبقري آلان غرينسبان، ومهندس السياسة النقدية الأمريكية، هو نموذج صارخ لاحترام حساسية هذا المنصب.
آلان غرينسبان الذي شغل منصب محافظ البنك المركزي الأمريكي في أغسطس عام 1987، وظل في المنصب حتى تقاعد في يناير عام 2006، عُرف عنه الصمت المستمر خلال عمله، ورفضه إجراء مقابلات مع الصحافيين ووسائل الإعلام، بل ظل صامتاً خلال 60 سنة هي فترة عمله في الحقل الاقتصادي، لم يتحدث عن نفسه طوال حياته العملية، وحتى في حال استجوابات الكونغرس له في بعض القضايا الاقتصادية والنقدية بحكم الدستور، كان يكتفي بالإجابات المختصرة والرسائل القصيرة.
هذا الصمت لم يكن سمة غرينسبان الشخصية بل هي مسئولية المنصب الذي يشغله، وهي أي السمة الرئيسة لكل رؤساء البنوك المركزيين في العالم سواء الحاليين أو السابقين، وأبرزهم البريطاني مارك كارني، والياباني هاروهيكو كورودا، ومحافظ البنك المركزي الأوروبي، ماريو دراجي.
وعلى المستوى المصري كان أشهر من كان يملك هذه السمة هو المحافظ الأسبق للبنك المركزي المصري، د. فاروق العقدة، والذي سكت أشهراً طويلة عقب توليه منصبه نهاية 2003، وكذلك كان هشام رامز قليل الظهور، ومن الطبيعي أن يكون تواصل محافظي البنوك المركزية بالإعلام عبر إصدار بيانات صحافية بعيدا عن الحوارات الصحفية المثيرة.
لكن المحافظ الحالي للبنك المركزي كسر هذه القواعد، إذ بات وجها مألوفا للإعلام وضيفا متكررا على شاشات التلفاز، وجاء أخر ظهور لـ عامر عبر مقابلة مع قناة تلفزيون دي.إم.سي مساء أمس، إذ قال إن تصريحاته في مارس الماضي، بأن الدولار سيخفض إلى 4 جنيهات "كانت نكتة للمصريين"، وهو الأمر الذي لقى انتقاد الكثير من الاقتصاديين.
ويأخذ على عامر كثير من التناقضات خلال حديثة للإعلام، إذ قال بالأمس، حول قرار تحرير سعر الصرف "أنا كنت فرحان جدا بتطبيق قرار تحرير سعر الصرف، وكنت مستعجل على إجراء التعويم وكنت أسعى إليه لأني أعرف أن له آثار ايجابيه وليست آثار سلبية فقط ".
وسبق ذلك حديثه عن أن الشعب المصري سعيد بتعويم الجنيه، قائلًا :"ده حتى مراتى النهاردة مبسوطة علشان الوديعة بتاعتها بتعمل فلوس"، وذلك في أعقاب قرار البنك المركزي بتحرير سعر الصرف.
وفي يوليو الماضي، كان طارق عامر، قد صرح بأنه سيتحرك لخفض سعر صرف الجنيه، لأن محاولات البنك المركزي السابقة للحفاظ على قيمة الجنيه كانت خطأ فادحا، وكلف الدولة مليارات الدولارات في السنوات الخمس الماضية.
وعلى إثر تصريحاته آنذاك وزيادة احتمالات خفض قيمة الجنيه، ارتفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء، ليكسر حاجز 12 جنيهاً لأول مرة ، وشهد السوق السوداء انتعاشًا كبيرًا وقتها.
واستنكر خبراء الاقتصاد الظهور الإعلامي المتتابع لـ طارق عامر، محافظ البنك المركزي سواء من خلال لقاءاته التلفزيونية أو تصريحاته للصحف، لأن حديثه يكون له أثارًا سلبية وتأتي عادة بمردود عكسي على الاقتصادي المصري، وعلى سعر الدولار بشكل خاص إذ ارتفاع اليوم بعد موجة من الهبوط، متزامنا مع ظهور عامر.
الدكتور أحمد خزيم، المستشار الاقتصادي للمجموعة المصرية للإدارة، قال إن وظيفة محافظ البنك المركزي هي إدارة النقد بالأدوات المتاحة له، لا أن يكون مشغولًا بالتواصل مع الإعلام كما يفعل طارق عامر.
ورأي في تصريحات خاصة لـ "مصر العربية"، أن طارق عامر، يسعى إلى تجميل صورته، وذلك من خلال علاقاته مع بعض الإعلاميين، إلا أن سياساته هذه لن تنجح طويلًا.
وتابع خزيم، أن إدارة عامر للسياسة النقدية عليها الكثير من علامات الاستفهام، مدللا على ذلك بأن كريس جارفيس، رئيس بعثة صندوق النقد الدولي أعلن أن الخطأ الذي وقع فيه صندوق النقد الدولي في تقييم أثر تحرير سعر الصرف على الجنيه المصري جاء بناء على البيانات التي قدمها محافظ البنك المركزي.
ومن جانبه أكد وائل النحاس، أن ظهور محافظ البنك المركزي في الإعلام في أي دولة في العالم يكون محسوب، كما أن تصريحاته عادة ما تكون مكتوبة ولا مجال فيها للارتجال، لأن كلامه عادة ما يكون له تبعات ومن الممكن أن تؤدي لتحركات أسواق المال والتغيير في قيمة العملة.
وطالب في تصريحات خاصة لـ "مصر العربية" أن يكون ذلك هو الظهور الأخير لطارق عامر في منصب محافظ البنك المركزي، مؤكدًا أن السياسية النقدية في مصر لن تستقيم في وجوده، ومطلوب محافظ للبنك يستطيع أن يلعب سياسة أكثر من الاقتصاد، وبدون ذلك سنعرض سياستنا النقدية للخطر.
وذكر النحاس، أن تصريحات عامر الأخيرة عن الديون الداخلية والخارجية وحول مستقبل الاقتصاد المصري لم تكن دقيقة ولا ترقي لمنصب ومستوي محافظ البنك المركزي، الذي اتضح من كلامه أنه ليس هو من يدير المركزي.
واعتبر أن أحاديثه ما هي إلا "فرقعة" إعلامية، ومن الممكن أن يكون ظهوره بهذا الشكل اتجاه للدولة بهدف الرد على الخبراء المعترضين على سياساته، إلا أنه لا يرد بحرفية، ومنصبه لا مجال فيه للتهريج والارتجال.
وقال رشاد عبده، الخبير الاقتصادي، إن ظهور محافظ البنك المركزي في الإعلام يجب أن يكون له مبرر أو عندما يكون هناك حدث يستحق تصريحاته، وهو ما نراه في العالم كله، ومن الممكن أن يمر عام دون أن يخرج محافظ البنك المركزي في بريطانيا أو غيرها بتصريح واحد.
وأضاف في تصريحات خاصة لـ "مصر العربية" أن صوت طارق عامر وصورته تثير الأزمات، كما أن تصريحاته عادة ما تأتي بثمار عكسية، مثلما حدث بعد حديثه انخفاض قيمة الجنيه وبعدها انتعشت السوق السوداء.
وأنعش ظهور طارق عامر أمس السوق السوداء للدولار، إذ وصل إلى 18 جنيها لأول مرة منذ ثلاثة أسابيع من الانخفاض.
وأرجع مستوردون أسباب ارتفاع الدولار في السوق السوداء، لنقص المعروض في البنوك العاملة في السوق المحلي ورفضها بيع الدولار للمستوردين، بالإضافة إلي زيادة الطلب من جانب الصناع المصريين لشراء مدخلات الإنتاج، وزيادة المضاربات من جانب حائزي الدولار بعد انخفاضه خلال الثلاثة أسابيع الماضية، فضلا عن انتهاء إجازة الصين.
وفي تصريحات سابقة، لـ«مصر العربية»، قال أحمد شيحة رئيس شعبة المستوردين بالغرف التجارية، إن استحواذ البنوك خلال الفترة الراهنة على الدولار ورفضها عملية البيع لتلبية الاحتياجات الاستيرادية وراء الارتفاع مجددًا، مشيرًا إلى أن المستوردين لا يزالوا عند وعدهم للحكومة برفض شراء الدولار.
وأضاف شيحة، أن هناك طلبا متزايدا من جانب الصناع المصريين الذين يقومون بشراء الدولار خلال الفترة الراهنة لتلبية احتياجات المصانع، خاصة فيما يتعلق بشراء المواد الخام، متهما رجال الصناعة بالتسبب في ارتفاع الدولار في السوق السوداء.