جدد شيخ الأزهر أحمد الطيب والبابا تواضروس الثاني الاتفاق على ترسيخ قيم التعايش والمواطنة لمواجهة التطرُّف، وهو اتفاق قديم وواضح، يتعزّز دائماً بالشخصية المصرية القائمة على التسامح والاعتراف.
ولا يُعزى تهجير عائلات قبطية أخيراً من العريش إلى خلل في العلاقات الإسلامية- المسيحية، على رغم بيانات التهديد التي وجّهها «داعش» وإخوانه وتضمّنها كلاماً من التراث الإسلامي يغطي به التنظيم حقيقته السياسية التي كُشفت جزئياً ولا يجرؤ أحد على كشفها كاملة: لعبة خبيثة وخطيرة تقرن الدين بالقتل، استطاعت هدم مجتمعات في المشرق العربي (العراق وسورية) وتهدد جواره التركي، كما تضرب في أوروبا وأنحاء عدة من عالمنا، وهي منذ أكثر من سنة تحاول خلخلة المجتمع المصري الراسخ.
الدولة والمجتمع العميق والأزهر والكنيسة، تبعث كلها برسائل طمأنة إلى المواطن المصري المسلم والمسيحي، لكن الوقائع الجارحة تتسبّب بالقلق، خصوصاً عندما يشاهد العالم على شاشات التلفزة تلك المواطنة المسيحية الصامتة ذات الوشاح الفرعوني الأسود، ومن حولها أبناؤها، تنظر في الفراغ لدى وصولها إلى الإسماعيلية مبتعدةً قسراً عن منزل العائلة في العريش. كان الاستقبال لائقاً تقدّمه الحكومة وأهل المدينة فتؤمّن للنازحين مساكن ووظائف، كما حدث سابقاً لمواطنين تهجّروا من الصعيد على مدى عقود ولم يعودوا.
ويسجّل للمسيحيين المصريين تمسُّكهم بالمواطنة، ورفضهم التدخُّل الأجنبي في شؤونهم وشؤون وطنهم. لقد حاذروا نعتهم بـ «الأقلية» لأنهم يعيشون المواطنة في النسيج المتداخل للمجتمع المصري ولا يرضون الانزلاق إلى الغيتوات، على رغم حالات التهجير القسري على أيدي جماعات متطرفة عابرة للدول ورافضة مبدأ المواطنة.
وأخوف ما يخافه المصريون ومحبّو مصر أن يصبح التهجير داخل الوطن خبراً عادياً لا يستحق رد الفعل المناسب، عند ذلك تصبح مصر مهيأة لما حلّ بالعراق وسورية حيث انهار المجتمع وتوزّع أشتاتاً هزيلة.
مواطنون مسيحيون في العريش ورفح، يعني أن شمال سيناء جزء لا يتجزّأ من مصر.
مواطنون مسيحيون مطرودون من هناك، يعني أن السكان المسلمين الباقين مهيأون لفقد هويتهم المصرية في دولة «داعش» أو ما يماثلها، أي في اللادولة واللامواطنة.
وإذ يحلو لرواد المقاهي في مصر ترداد إشاعات وسيناريوات يُطلقها معارضون، «إخوان» وغير «إخوان»، فذلك استهتار بآلام مواطنين فقدوا بيوتهم وأرزاقهم في تحليل متسرّع يتركّز على معارضة الحكم بأي ثمن. وهذه الخفة في رد الفعل يجب ألاّ تُلهي المعنيين عن جذر ما يمكن تسميته تجاوزاً المسألة القبطية التي بدأت على مرحلتين، الأولى مع تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين» عام 1928 حين خلط حسن البنا بين المواطنين المصريين المسيحيين والوافدين من أوروبا وبلاد الشام الذين احتلوا واجهة الحركة الاقتصادية والثقافية في مصر، خصوصاً في فترة ما بين الحربين العالميتين، وقد نسب البنّا، بقدر من الجهل أو عدم المسؤولية، إلى الاقباط ما اعتبره سيئات اقترفها الوافدون. وإذا سلّمنا برأيه فإن هذه السيئات أضرّت بالمصريين مسلمين ومسيحيين، ولا علاقة للأقباط.
والمرحلة الثانية بدأت مع استيلاء «الضباط الأحرار» على الحكم في تموز (يوليو) 1952، ولم يكن هؤلاء في معظمهم بعيدين عن مزاج «الإخوان» الطائفي وأحكامه المتسرّعة، حتى إذا اصطدم جمال عبدالناصر بقيادة «الإخوان» عام 1954 دخل الطرفان في منافسة إسلاموية في إدارات الدولة والجسم الاجتماعي، أدّت إلى تهميش الأقباط، والتنافس لا يزال قائماً بشكل أو بآخر إلى اليوم.
المجتمع المصري العميق والدولة المصرية العميقة، وحدهما يتفهّمان المواطنة القبطية الراسخة عبر التاريخ، حتى في فترات ضم مصر إلى المجال السياسي الإسلامي لقرون انتهت مع دولة محمد علي التي أعادت لمصر هويتها الاجتماعية واستقلالها السياسي.
... ومنذ ثورة 25 يناير يبحث الشعب المصري عن معنى وطنه مواجهاً عداء «الإخوان» لفكرة الوطن والمواطن وخفة معارضين يستعيرون أفكارهم من تجارب بعيدة ولا ينظرون إلى متطلبات مصر شعباً وأرضاً وتحديات، ولا ننسى أيضاً الخطاب الخشبي لبعض أجهزة الحكم حين تتنافس مع الإسلام السياسي مستعيرة كلامه.