أعلنت بكين قبل أيام عن توقعها أن يبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي 6.5% في العام الجاري، الأمر الذي يشير إلى استمرار تباطؤ الاقتصاد الذي كان يعد معجزة في تسارع نموه خلال السنوات الماضية.
النمو المقترح للعام الجاري، هو الأدنى للاقتصاد الصيني منذ عام 1990، ويشكل كذلك حلقة إضافية في مسلسل الهبوط المستمر منذ عام 2008.
وعلى الفور، ألقى ذلك الإعلان بظلاله الثقيلة على مساعي البلاد تطوير قدراتها العسكرية، فبالرغم من توتر علاقات البلاد مع الإدارة الأمريكية الجديدة، برئاسة دونالد ترامب، والحديث عن سباق تسلح على مستوى العالم، فإنه يبدو أن بكين اضطرت للاكتفاء برفع الميزانية المخصصة للدفاع 7%، وهي الزيادة الأقل منذ عام 2010، وفق ما أعلنت الحكومة.
ويبرز من بين أسباب التراجع في النمو، اعتماد الاقتصاد الصيني شبه الكلي، على الصادرات والاستثمار الأجنبي، وهما عنصران مرتبطان باستقرار الأسواق الكبرى من جهة، وانخفاض الأجور في الصين من جهة أخرى، لتحقيق أعلى قدرة تنافسية.
إلا أن ذلك المستوى المتدني للأجور، يحرم البلاد من فرصة الاستفادة من الإنفاق المحلي في تحريك عجلة اقتصادها، ويبقيه رهينة مزاج الاقتصاد العالمي، أكثر من أي اقتصاد آخر في العالم.
أكثر من ذلك، أدى ارتباط الصادرات بالقروض إلى التأثير على الإنفاق المحلي سلباً، واضطرت البنوك الصينية إلى توفير قروض كبيرة للدول المستوردة للحفاظ على الأسواق، وعلى عجلة الصناعة والاستثمار والتصدير، وذلك إبان الأزمة المالية العالمية عام 2008، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الفائدة على القروض إلى 7.5%، وفق بيانات البنك الصين الشعبي (المركزي) لذلك العام، ودفع السوق المحلية بالتالي إلى المزيد من التوفير.
وعلى الرغم من تجاوز الاقتصاد العالمي لكثير من آثار أزمة 2008، إلا أن الاقتصاد الصيني لم يتمكن من النهوض مجدداً، الأمر الذي أرجعه تقرير لمجلة "جيوبوليتيكال فيوتشرز" الأمريكية، صدر الإثنين، إلى عوامل أخرى إلى جانب آثار الأزمة العالمية، أهمها تراجع الإقبال على المنتج الصيني، وظهور منافسين له من حيث السعر والنوعية حول العالم، والفجوات الكبيرة في توزيع الثروة بالبلاد.
تحيل تلك الأسباب، ملف أزمة الصين الاقتصادية إلى طاولة السياسيات الداخلية والخارجية، فعلى المستوى الداخلي تعاني البلاد من عقدة الثورة الثقافية التي قادها "ماو تسي تونغ"، في ستينيات القرن الماضي، ومن مشاكل اجتماعية حادة.
وكان من أبرز آثار الثورة؛ نفي الملايين من الشباب إلى الأرياف للعمل بالزراعة من جهة، وانتزاع الأراضي من الإقطاع والشركات ومنحها للفلاحين من جهة أخرى.
وترك هذا الأمر، الفلاحين رهن تقاسم كعكة الناتج الزراعي المحدودة أصلاً، وحدّ من نصيبه في الناتج المحلي الإجمالي، ومن فرص تطوير مناطق شاسعة في البلاد، الأمر الذي ستتطلب معالجته قيام ثورة إصلاحية جديدة، قد لا تكون الصين مستعدة لها.
إلى جانب ذلك، فإن عدداً من الأقاليم الصينية تفتقر إلى التجانس العرقي والديني، وتشهد نزعات انفصالية عن بكين التي تتهم باتباع سياسات تمييزية بحق الأقليات التي تقطنها، الأمر الذي يقف حائلاً أمام تطوير مساحات شاسعة من البلاد، واستغلال ثرواتها وسكانها في تحريك الاقتصاد.
ومن أبرز تلك الأقاليم تركستان الشرقية، أو "شينجيانغ" (شمال غرب)، الذي يحتل سدس مساحة البلاد، كأكبر إقليم فيها، ويشكل المسلمون الأويغور قرابة نصف سكانه الـ25 مليوناً، وإقليم التبت "شيزانغ" (جنوب غرب)، ثاني أكبر الأقاليم، بمساحة تفوق 12.75% من إجمالي مساحة الصين، ويطالب سكانه التبتيون البوذيون، البالغ عددهم أكثر من ثلاثة ملايين، بالانفصال.
أما على الصعيد الخارجي، فإن منافسة الدول الكبرى على الإنتاج وعلى الأسواق الجديدة، سيتطلب نشاطاً سياسياً كبيراً على أسس استراتيجية مختلفة عن تلك التي تبنتها الصين على مدار تاريخها، وهو ما بدأت ملامحه بالظهور في التوجه الصيني الجديد نحو القارة الإفريقية، التي تمتلك أسواقاً ناشئة كبيرة.
توجت بكين توجهها الجديد بإنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي، نهاية العام الماضي، هي الأولى للصين خارج حدودها، وذلك في إطار استراتيجية إعادة إحياء طرق التجارة التاريخية، سواءً البرية أو البحرية، التي كشفت عنها بكين عام 2013، والتي ستتضمن إنشاء العديد من المراكز التجارية، وربما العسكرية، على امتداد تلك الطرق، الأمر الذي قد يضع بكين في مواجهة مع الدول الكبرى.
لا تبشر تلك المعطيات بنهاية قريبة للأزمة الصينية، وتضع بكين أمام مفترق طرق، أحدهما يتمثل بتغليب الإصلاحات البنيوية للاقتصاد والمجتمع على النمو، الأمر الذي سيكون موجعاً لأدائه لمدة لن تكون قصيرة، والآخر بالاستسلام للعنة التصدير والبحث عن مساحات لتنقل إليها أزماتها.