"أن تصمد الأمة في جهادها لأخذ الحق ساعة، خير لها من الحياة في الذل إلى قيام الساعة".. هذه أحد مقولات جمال الدين الأفغاني، أحد الأعلام البارزين المنادين بالتجديد في النهضة المصرية والفكر الإسلامي. جمال الدين الأفغاني، الذي تحل اليوم ذكرى وفاته الـ120، فيلسوف ومعلم دافع عن تراث المسلمين والتصورات الدينية التقليدية، لكنه كان رجلًا عصريًا، وبرشده وبلاغته استطاع أن يجمع ما بين الاتجاهين الديني والعلماني.
اختلف المؤرخون على الموطن الأصلي لميلاده فمنهم من رجح أنه ولد في "أسد آباد" الإيرانية، وآخرون قالوا الأفغانية، ولذلك أطلق عليه جمال الدين الأفغاني، ولعل هذا الاختلاف رجع ليكون هذا الشاب منتميا لدول الشرق جميعًا. فظهر لأول مرة سواحًا ليزور بلاد العرب و مصر و تركية و يقيم في الأفغان وهند وفارس ويسافر إلى كثير من عواصم أوروبا. منذ صغره كانت مخايل الذكاء، وقوة الفطرة، تبدو عليه، ليساعده ذلك في تعلم علوم الدين، والتاريخ، والمنطق، والفلسفة، والرياضيات. ولم يكتفِ بذلك، فقرر أن يسافر للهند ليدرس العلوم الحديثة على الطريقة الأوروبية وتعلم اللغة الإنجليزية، وعمره لم يتعد العشرين عامًا فنضج فكره، واتسعت مداركه. وأتحت له الفرصة أثناء تواجده بالهند للسفر ليؤدي فريضة الحج، فاغتنم هذه الفرصة وقضى سنة يتجول بالأراضي السعودية، ويتعرف أحوالها، وعادات أهلها، حتى أتم فريضته.
ينبوع الحكمة في مصر
زار "جمال الدين الأفغاني" مصر لأول مرة أوائل سنة 1870م، ولم يكن يقصد الإقامة بها طويلا؛ فكانت محطة له أثناء رحلته للحجاز. وأثناء تواجده بالأزهر الشريف اتجهت إليه أنظار النابهين من أهل العلم، ووجدوا منه روحاً تفيض معرفة وحكمة، فأقبلوا عليه يتلقون بعض العلوم الرياضية، والفلسفية، والكلامية، وقرأ لهم شرح "الأظهار". وخلال 40 يومًا، وهي المدة التي أقامها في مصر، استقبل كل المهتمين بالعلم في المنزل الذي أقام به بخان الخليلي، وبعدها سافر إلى الحجاز، ومنها للأستانة. ولم تكن المرة الأخيرة، ليقرر الأفغاني زيارة مصر مرة أخرى، بعد أن وجد الجو غير صالح في الأستانة للنهضة العلمية، والفكرية. وتحول بيت "الأفغاني" في خان الخليلي لمدرسة، وأفاض من بحر علمه على مصر، وكان يدرس بأسلوب طريف، وطريقة مبتكرة، ويعتمد على مخاطبة العقل، وفتح أذهان تلاميذه ومريديه إلى البحث والتفكير، وبث روح الحكمة والفلسفة في نفوسهم، وتوجيه أذهانهم إلى الأدب، والإنشاء، والخطابة، وكتابة المقالات الأدبية، والاجتماعية، والسياسية، فظهرت على يده نهضة في العلوم والأفكار أنتجت أطيب الثمرات.
أقام الأفغاني في مصر، وأخذ يبث تعاليمه في نفوس تلاميذه، فظهرت على يده بيئة، استضاءت بأنوار العلم والعرفان، وارتوت من ينابيع الأدب والحكمة، وتحررت عقولها من قيود الجمود والأوهام، وتتلمذ على يده محمد عبده؛ وكذلك محمود سامي البارودي؛ رائد الشعر العربي المعاصر.
كان لروح جمال الدين الأثر البالغ في نهضة العلوم والآداب في مصر، حيث قام بإِعْداد الأجواء المناسبة للنهضة الأدبیة بواسطة الإصلاح الديني والصحوة الإسلامیة والوعي القومي، وکتابة مـقالات سـیاسیة فـی الصحف والجرائد بلغة سهلة، والدعـوة إلى تحریر الکتابة من التعقید والتقلید وجعلها في خدمة الفکر لا في خدمة الأسلوب.
الأفغاني والاستعمار
"لن تنبعث شرارة الإصلاح الحقيقي في وسط هذا الظلام الحالك، إلا إذا تعلمت الشعوب العربية وعرفت حقوقها ودافعت عنها بالثورة القائمة على العلم والعقل".. كان هذا موقف "الافغاني" من الاستعمار.
وقُبل هذا الموقف بالنفي خارج مصر إلى الهند، بعد أن وقف الأفغاني في وجه السلطة الحاكمة بقيادة الخديوي توفيق، معلنًا تأييده للثورة العرابية وتحرير الدولة من رقة الذل والعبودية، وذكرت في خطاب نفيه أنه "رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا". وبالرغم من جهاده واجتهاده، وما خلفه من علوم وتراث فكري، إلا أنّه دفن سرًا في مقبرة المشايخ بالقرب من نشان طاش في تركيا يوم 9 مارس 1897، بأمر من الحكومة العثمانية وتحت مراقبة الدولة. وفي 1944 نقل جثمان الافغاني من تركيا إلى بلده أفغانستان في موكب إسلامي مهيب، ليدفن في مدينة كابل ويقع ضريحه حاليًا في وسط جامعة كابل.