مع حلول الامتحانات يتجمع الطلبة المحبوسون من جميع السجون في زنزانة واحدة داخل سجن طرة؛ اسمها "زنزانة الطلبة".
أيمن موسى واحد من أعضاء هذه الزنزانة، ألقي القبض عليه في 6 أكتوبر 2013 من ميدان رمسيس، وبقي عاما قيد الحبس الاحتياطي بتهم التظاهر والانتماء لجماعة محظورة والتحريض على العنف والتعدي على قوات الأمن، وصدر ضده حكم مع 66 آخرين بالسجن 15 عاما وغرامة 20 ألف جنيه و5 سنوات مراقبة.
وفيما يلي نص رسالته من داخل "زنزانة الطلبة"، ونشرتها والدته اليوم الأحد على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك":
كل عام قبل الامتحانات نتجمع نحن الطلبة من جميع أنحاء السجون، و كافة الكليات و الجامعات هنا..في سجن طرة..
زنزانة الطلبة لها روح مختلفة. روح شبابية. رغم ما نراه من "بهدلة" بسبب "الترحيلة" لكننا نتظر كل عام كي نلتقي لأيام معدودة ثم يتم ترحيل الجميع مرة أخرى، كلٌ إلى "سجنه".
بالنسبة إلينا - ومن يأتون من سجون شديدة الحراسة - الزنزانة واسعة، على الأقل يمكن التحرك فيها. المساحة المخصصة للنوم(النمرة) واسعة نسبياً، يوجد حمامان و التهوية أفضل.
قبل امتحاني الأخير بيوم، كنت جالسا في ركن الزنزانة أذاكر، الملازم مبعثرة من حولي ماعدا واحدة في إحدى يدي و قلم في الأخرى..الجو شديد البرودة..على رأسي "الكابيشون" وبداخل رأسي أرقام ومعادلات متناثرة..أحدق في الملزمة، أحاول فك ألغازها..لا أستطيع..أضعها بجانبي في يأس، و أنظر للزنزانة من حولي.
على يميني بعض الشباب يصنعون الطعام للزنزانة. أمامي بعض الشباب يتحدثون في أمر ما..بجانبهم شاب يذاكر، و آخر ينظر من ((الثقب)) الذي نرى به العالم الآخر لبضع دقائق في توتر و قلق.
هذا ((الثقب)) الذي رأيت منه مصطفى عصام قبل أن يرحل. لم أكن أعرف شيئا عنه منذ ثلاثة أعوام، ثم رأيته أمامي مبتسما كعادته..كأنه يودعني للمرة الأخيرة قبل رحيلة..رحمه الله.
تتزاحم أمامي الأرقام و المعادلات. تزداد شيئا فشيئا حتى تحول بيني و بين الزنزانة من حولي..رأسي تثقل..أسندها على الحائط ورائي..جفنيّ يثقلان، يسقطان شيئا فشيئا.
"أيمن! أيمن!" أسمع صوتا يناديني، أشعر بجسدي يهتز..أفتح عينيّ ببطء أرى وجهاً مبتسماً ابتسامة خبيثة، يكمل حين يرى عينيّ شبه مفتوحتين.."إيه يابني إنت نمت؟! طب قوم نام على الفرشة!" نظرت إليه متعجباً هذه الابتسامة الخبيثة التي لم تذهب. أيضحك على نومي جالسا؟ أم تراه فعل مقلبا ما؟! تجاهلت ابتسامته وأسئلتي و قلت له بصوت متحشرج " لا أنا هقوم دلوقت". تركني و ذهب.
انتظرت قليلا حتى يعود عقلي للعمل..حتى ينتهي من ال "buffering".
قمت لأغسل وجهي. " أيمن! تلعب بولة Estimationn؟!" نظرت ناحية مصدر الصوت الآتي من خلفي..وجدت جندي جالسا و معه ثلاث شباب آخرين و بأيديهم كروت "كوتشينة". أشرت برأسي نافياً و قلت "لاء مش قادر بس....ممكن ألعب "Poker".. "طيب هنخلص البولة دي و نلعب..هات معاك ال chips و إنت جاي".
ذهبت إلى الحمام، أمسكت بزجاجة مياه، في هذا السجن المياه منقطعة طوال الوقت! تأتي فقط خمس مرات كل يوم لدقائق، فنملأ الزجاجات و الجرادل وأي شيء يصلح لتخزين المياه..صببت بعض المياه على يدي، المياه مثلجة! غسلت بها وجهي سريعاً قبل أن أتراجع.
خرجت من الحمام، نظرت ناحية جندي وجدتهم مازالوا يلعبون، فذهبت لصنع كوب نسكافيه.
سألت عبد الرحمن عمر عن مكان الأكواب، ترك الكتاب الذي كان يقرأ فيه ونظر إلي، ضغط على منتصف نظارته بحركة لا إرادية وقال لي مشيرا إلى كيس معلق على الحائط وراءه "هتلاقيه في الكيس ده". فذهبت ناحية الكيس و سألته إن كان يريد أن يشرب شيئاً، فأومأ برأسه نافياً وشكرني.
سمعت صوت جندي قائلاً لي "هتعمل إيه؟" نظرت إليه وسألته "نسكافيه، تشرب؟" "آه إعملي معاك" "يابني هتبوظ مني كده، إنت مكنتش بتشرب شاي..دلوقتي بتشرب نسكافيه و قهوة و بتلعب estimation و poker..؟! و لا إنت علشان خلصت مذاكرة بتنتقم يعني؟"
رد علي ضاحكاً "ياعم ما انت السبب، أول كباية قهوة إنت اللي علمتهالي، وأول بولة Estimaton إنت اللي علمتهالي".. رددت عليه مبرئا نفسي "بس مش أنا اللي معلمك ال Poker..دي إحنا إتعلمناها هنا مع بعض..عامة شوف كده حد عندك عايز يشرب حاجة؟" سألهم و نفوا جميعاً ماعدا علي عرفة طلب كوب شاي بدون سكر.
صنعت المشروبات و أتيت بال chips المصنوعة من أطباق فل وأقلام highlighterr في طريقي لمحت جريدة الأخبار ملقاة على الأرض و مكتوب في الصفحة الأولى بخط عريض "قائمة العفو الثانية في خلال ٧٢ ساعة" إبتسمت نصف إبتسامة فقد مضى أسبوعا (١٦٨ ساعات) و لم يحدث شيء!! أكملت طريقي إلى الشباب في ركن الزنزانة..أعطيت لكل كوبه و جلست لنغلق دائرة من خمس أشخاص، و انتظرت آخر game في البولة.
ألقيت نظرة سريعة على الزنزانة.. ٢٥ شاب غيري في هذه الزنزانة! ٨٨ زنزانة طلبة في هذا السجن فقط، غير من يؤدون امتحانتهم في سجون أخرى، غير من يوجد مشاكل في أوراقهم ولا يستطيعون أداء الامتحانات، فظلوا قاعدين في "سجونهم"...صدمت عندما رأيت شبابا من مواليد ١٩٩٨! عامين و سنلتقي بمواليد ٢٠٠٠!! أعلم أن هناك أطفالا قابعين في مؤسسة العقابية، لكن دائماً الرؤية غير السمع.
بدأنا game ال Poker..علي عارف يوزع ال "chipss" ثم خمس ورقات على الأرض و ورقتين لكل لاعب، سألني جندي "إيه النوم ده كله؟!"..نظرت إليه متعجباً "إيه أنا نمت كتير؟!"
"آه..و كمان الشباب كانت قاعدة تطبل و تهيص..الواد خالد مسك الحلة و إشتغل.. طبعاً كله مايبدأ....، أنت محسيتش؟!" "خالص!"
"خلصت مذاكرتك و لا لسة طيب؟"
"لا لسة فاضل لي 7 chapter و 13 مش فاهم منهم حاجة!"
"طب إيه مش هاتكمل؟!"
"دلوقت! لاء..مخي فاصل شحن..زي البتاع اللي ورا ده." و أشرت بإبهامي خلفي على "الثقب" الذي نرى به العالم لبضع دقائق في توتر و قلق..ابتسم جندي إليّ و قال " بس المفروض دي لعبتك....الstatistics..
تم وضع ورقة جانباً..اختلست نظرة سريعة إلى ورقي ثم إلى الورق الملقى على الأرض و قلت و أنا أرمي ب chip 5000.. "يا عم لو المنهج يتشرحلي مرة واحدة بس هقفل الامتحان..كده كده الأسئلة بتيجي مباشرة مفيهاش لف و دوران..و بعدين الورق لسة داخلي زيارة حسن أول إمبارح، بعد ما رجعت من زيارتين قبله..و الامتحان بكرة! و أنا مخي وقف عامة..الصبح هاراجع على اللي ذاكرته و بعديها هحاول أفهم أي حاجة من اللي ناقص."
"آه صح الصبح الدنيا بتكون هادية."
"All in!" قلت و أنا أدفع كل ال chips بثقة قبل أن أخسرها كلها!
نظر إليّ جندي و قال لي ضاحكاً "يابني إحنا لو كنا بنلعب على فلوس، كان زمانك بعت شرابك!" ضحكنا جميعاً
أحيانا تولد لحظات تنسيك كل همومك، كالنبات الذي يشق طريقه من بين الوحل والسماد، فيخرج ورودا وثمارا..نتمنى أن نمسك بهذه اللحظات ونستمتع بكل تفصيلة فيها..لكن سرعان ما تذهب هذه اللحظات وسط قلة الشمس وعفونة المكان..فتدبل..وتموت!!