61 شهرًا مرَّت على عمر الثورة السورية، حين خرجت حناجر شعب ضد نظام بشار الأسد، إلا أنَّه تصدى لهم بالدبابات التي دفعوا هم في الأساس تكلفتها من قوت عيالهم.. طيلة عمر الثورة بلغ الموت السوري مداه.. قُتل السوريون بكل صنف حتى أحياءً.. ذلك عبر "التهجير".
عندما حطت سفينة الربيع العربي في ميناء سوريا في مارس 2011، بعدما أحلّت بشراعها في تونس ومصر، خرج آلاف السوريين يطالبون بإنهاء أكثر من 45 عامًا من حكم عائلة الأسد وإقامة دولة ديمقراطية يتم فيها تداول السلطة، غير أن نظام الرئيس بشار اعتمد الخيار العسكري لوقف الاحتجاجات، ما دفع البلاد إلى دوامة من العنف، ومعارك دموية بين قوات النظام والمعارضة ما تزال مستمرة حتى اليوم.
"ارحل - الشعب يريد إسقاط النظام" هو الهتاف الذي لفَّ بلدان الربيع العربي، فرحل في تونس زين العابدين بن علي، وفي مصر حسني مبارك، وفي ليبيا معمر القذافي، وفي اليمن علي عبد الله صالح، بينما في سوريا ظلَّ الأسد - إلى اليوم - رئيسًا للنظام، بل ما لفت الانتباه أنَّ الشعب هو من يرحل، إما قتلًا أو تهجيرًا.
لم يكتفِ الوضع السوري أن يفتك بالشعب حتى الموت لكنَّه يُسقطهم قتلى وهم على قيد الحياة، فالأشهر الأخيرة من عمر الثورة لم تشهد فقط نزوحًا هربًا من براميل الموت بل وصل إلى إجبار أصحاب الأرض على ترك أرضهم، إما جبرًا أو خلاصًا.
في سوريا ثورة.. يرحل الشعب وليس الرئيس
على مدار أشهر الثورة، تتحدث تقارير عن تحركات "أسدية" لإعادة رسم الخارطة السكانية على أسس طائفية ومذهبية وعرقية في سوريا، حيث يجبر النظام، السكان على إخلاء أراضيهم بشكل قسري، كما يرى خبراء.
إحصائيات - نشرتها "BBC" - تحدثت عن نسب المكونات الطائفية في سوريا، حيث نسبة السنة 74% وتشمل السنة مكونات إلى جانب العرب مثل الأكراد والتركمان والشركس والشيشان والبشناق والأرناؤوط، ونسبة العلويين 11%، والموحدون الدروز 3%، والشيعة الجعفرية 1%، الإسماعيليون 0.5%.
حمص.. رقم جديد
من مدينة حمص، إحدى شعلات الثورة ضد النظام الأسدي، انطلقت اليوم السبت أولى دفعات المهجرين من حي الوعر في حمص "وسط"، حيث بدأ تهجير 50 ألفًا من سكان الحي، آخر معاقل المعارضة المسلحة في مدينة حمص، باتجاه مدينة جرابلس، وذلك وفقًا للاتفاق الذي أبرمته لجنة عن أهالي الحي مع الجانب الروسي، وذلك بعد حصار المدينة من قبل قوات النظام لسنوات، وسط اتهامات له بممارسة سياسة التجويع ضد الشعب.
40 حافلة أقلَّت 1500 من مسلحي ومدنيي الحي انطلقوا خارج الحي باتجاه جرابلس، على أن يتبع ذلك دفعات أسبوعبة أخرى، على مدى الشهرين المقبلين، بحسب "الأناضول".
مصادر ميدانية تحدثت عن أنَّ قوائم التهجير تضمنت قرابة 25 ألف اسم، فيما لم يتضح بعد العدد الكلي الذي سيغادر الحي، تبعًا للاتفاق الذي أبرم في 13 مارس الجاري.
مشاهد الخروج من الوعر لم تخلُ من البكاء، فبثَّ ناشطون مقاطع فيديو عبر موقع "تويتر"، يبكون فيها خروجهم من المدينة، فقال أحدهم: "أهل حمص الأحبة.. ثقوا تمامًا أننا سنعود وسنناضل، والثورة لن تتوقف أبدًا بإذن الله.. يا بشار بإذن الله سننتصر عليك وسنعود إلى حمص الأبية عليكم".
#شام | لـــحــظــات وداع الـــوعــــر ، رسائل للأسد من مهجري #حمص pic.twitter.com/LQbTLUh9TC
— شبكة شام الإخبارية (@shaamnews) ١٨ مارس، ٢٠١٧
سيناريو التهجير في سوريا، الذي يستخدمه نظام الأسد لبسط سيطرته على مناطق كانت تقبع في سيطرة المعارضة، يكاد يكون متشابهًا في خطواته، فبعد ضغط وحصار وقصف وغارات يجبر الناس على ترك أراضيهم، وحتى وإن كان المقصد مجهولًا، لا سيَّما أنَّ الخروج يكون محدّد التوجه إلى مناطق بعينها.
التهجير في سوريا.. يسود ويسود
عام 2016 كان حافلًا بنزوح وتهجير السوريين من أراضيهم، فقد نزح عشرات الآلاف من ريفي حلب واللاذقية منذ نهاية يناير وحتى فبراير من العام الماضي إلى الحدود التركية بسبب كثافة القصف الجوي على مناطقهم وتقدم قوات النظام والمليشيات المؤيدة له في تلك المناطق.
أيضًا نزح نحو 20 ألفًا من بلداتهم وقراهم في جبل التركمان بريف اللاذقية الشمالي "غرب" باتجاه الشريط الحدودي مع تركيا - حسب "الجزيرة"، كما تمَّ تهجير أكثر من 50 ألفًا من سكان مدينة تل رفعت في ريف حلب الشمالي في الفترة نفسها.
في أغسطس الماضي، جاء الدور على سكان داريا بالغوطة الغربية من دمشق، فبعد حصار وتجويع هُجِّر الآلاف من المدينة إلى إدلب شمالي البلاد حيث أصبحت المدينة خاوية من أهلها بعد ذلك.
في سبتمبر الماضي، أُجبر المئات من مقاتلي المعارضة أيضًا وعائلاتهم من حي الوعر المحاصر في مدينة حمص وسط البلاد إلى ريفها الشمالي.
معضمية الشام التي كانت تشهد حراكًا ثوريًّا كبيرًا هجّر آلافٌ من أهلها وأخرج المقاتلين في أكتوبر الماضي.
في نوفمبر الماضي، وُقِّع اتفاقٌ لإخلاء المسلحين من منطقتي قدسيا والهامة بريف دمشق مقابل إدخال المواد الغذائية للمنطقتين.
مع حلول نهاية العام، هُجِّر عشرات آلاف المدنيين والمقاتلين من أحياء شرق حلب بعد حملة قصف وعمليات عسكرية مكثفة وتدمير للمستشفيات والمنشآت الخدمية.
المعارضة تحذِّر
مشاهد تهجير السوريين دفعت منسق الهيئة العليا للمفاوضات في المعارضة السورية رياض حجاب لإرسال رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون "آنذاك"، يقول فيها إنَّ حلب وحمص وريف دمشق ومناطق أخرى تشهد تغييرًا ديمغرافيًّا وتهجيرًا قسريًّا.
رسالة حجاب إلى الأمم المتحدة أيضًا حملت تحذيرًا للمنظمة من أن "تغرق في التبعات القانونية والأخلاقية لهذا التهجير".
هل يسبحون بحمده؟
السياسي السوري ميسرة بكور مدير مركز الجمهورية للدراسات وحقوق الإنسان قال إنَّ ما شهده حي الوعر اليوم يعتبر "تهجيرًا قسريًّا" تحت تهديد السلاح، لافتًا إلى أنَّ الأمر يُعاقب عليه دوليًّا.
وأضاف - لـ"مصر العربية": "المندوب الروسي في حي الوعر هدَّد الأهالي باستخدام القوة الجبرية لتهجيرهم من أراضيهم إذا لم يقبلوا الاحتلال الروسي، والاتفاق على الخروج كان بين الأهالي والاحتلال الروسي وليس مع تنظيم الأسد".
وتابع: "الأسد يستخدم منذ اندلاع الثورة، القوة العسكرية وسلاح التجويع الفتاك من أجل السيطرة على مزيدٍ من المناطق.. الأسد يجوِّع الشعب حتى يرضخوا وإذا رفضوا يقتلهم".
بكور أشار إلى أنَّ "تهجير السوريين" لن يتوقف إلا بانتهاء الشعب أو رضوخه أمام الأسد، مؤكِّدًا أنَّ رئيس النظام يرفع شعار "القتل منذ بداية الثورة السورية"، مستطردًا: "الأسد يريد من الشعب أن يصبح عبيدًا يسبح بحمده".
جريمة حرب
أسامة أبو زيد المستشار القانوني للجيش السوري الحر اعتبر أنَّ عملية التهجير من حي الوعر تمثِّل جريمة حرب.
أبو زيد، قال في تغريدة عبر موقع التواصل الاجتماعي "تويتر": "التهجير القسري في حي الوعر يجري برعاية روسيا وبإشراف الجيش الروسي تخرج أول قوافل المهجّرين.. روسيا تدعم جرائم الحرب في سوريا".
كسر إرادة
الدكتور المفكر والباحث السوري برهان غليون الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري قال إنَّ الهدف من عمليات التهجير التي ينتهجها النظام هو كسر إرادة التحرر لدى الشعب السوري ومعاقبته على القيام بالثورة.
غليون أضاف لـ"الجزيرة": "بعد اندلاع الثورة قبل نحو أربع سنوات بقدر ما كان الشعب السوري يقاوم بقدر ما أوغل النظام في اكتشاف استراتيجيات التقسيم الطائفي والمذهبي والعشائري والجهوي".
وتابع: "هناك مدن سورية بأكملها مدمرة وهناك رغبة من النظام بمنع السكان المهجرين من العودة إلى ديارهم في محاولة يائسة لإعادة رسم الخريطة السكانية".
18 مليون قتيل.. روسيا تسعى لتوازن
الكاتب السوري المعارض بسام الجعارة قال إنَّ سوريا تشهد ما أسماه "تطهيرًا عرقيًّا" بدءًا من دمشق حتى حمص، لافتًا - لـ"الجزيرة" - إلى أنَّ وزارة الخارجية الروسية تتحدث عن أنَّ الحل في سوريا يتطلب نوعًا من التوازن الديني، ما اعتبره يعني تهجير أو قتل 18 مليون سوري لتحقيق هذا التوازن.
وأضاف: "روسيا تدعم الأسد في أعمال القتل والتهجير، وحينما فشل الحل العسكري انتقلوا إلى قتل المدنيين، وكان الهدف من ذلك إجبار الشعب السوري على الركوع والاستسلام"، وذلك في تصريحاتٍ لـ"الجزيرة".