تسونامي الفساد

تسونامي الفساد

قضايا الفساد لا تنتهي ولا تتوقف. مسلسلٌ طويل لن تكون آخرَه تظاهراتُ الاحتجاج الروسية قبل أيام على فساد النخبة الحاكمة.

 

فمنذ مطلع العام، أي في أقل من ثلاثة أشهر، تصدرت الأنباءَ شبهاتٌ بالفساد طاولت المرشحيْن للرئاسة الفرنسية فرنسوا فيون ومارين لوبن، ورئيسَ الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، وحتى الرئيس دونالد ترامب في محاباته لعائلته في عمل إدارته، إضافة إلى اتهامات الفساد التي وجهت رسمياً إلى رئيسة كورية الجنوبية بارك كون هي بتلقي رشى.

 

في الحالة الروسية، كان الاهتمام الغربي بالتظاهرات لافتاً وكبيراً بوزن روسيا وأدوارها في العالم. الأخبار ركزت على انتشار التظاهرات في أكثر من مدينة، والأعداد الكبيرة للمتظاهرين، والقمع والاعتقالات... لكن من دون الدخول في تفاصيل تهم الفساد.

 

قد يبدو للحظة أن اتهامات الفساد ربما تأتي في سياق حملة سياسية ضد الرئيس فلاديمير بوتين والمقربين منه بسبب سياساته، وفي استباق لاحتمال ترشحه لولاية رابعة العام المقبل. إلا أن ما ورد في فيلم «شايكا» الوثائقي الاستقصائي عن الفساد في روسيا، والذي أعده المعارض ألكسي نافالني واتهم فيه رئيس الوزراء ديمتري مدفيديف بأنه على رأس إمبراطورية عقارية يموّلها أثرياء، إنما يبعث على القلق، إن كان صحيحاً، خصوصاً في بلد بحجم روسيا ودوره، ولأن المفترض أن بوتين بدأ عهده بمحاربة الفساد الذي كان مستشرياً في عهد الرئيس السابق بوريس يلتسن.

 

صحيح أنه، في بعض الحالات، اضطرت دول إلى غض الطرف عن الفساد لأسباب محددة، كما في الحالتين الروسية والصينية حيث عدد أصحاب الملايين في ارتفاع مضطرد، غير أن الفسادَ فسادٌ، وفي الحالة الروسية تحديداً يطرح علامة استفهام كبيرة، خصوصاً في ضوء طموحات بوتين باستعادة عظمة روسيا. ومهما كانت صحة الاتهامات من عدمها، إلا أنها تضرب على عصب حساس، ليس فقط لدى الروس، بل أيضاً في العالم حيث يستشري الفساد، إن كان في الدول النامية أم المتطورة.

 

فالفساد السياسي، بما هو إساءة استخدام السلطة العامة الحكومية بهدف تحقيق مكاسب شخصية، يصيب حياة الناس في الصميم. فكيف إن كان ينتهك أساساً مفهوم «العقد الاجتماعي»، أي الميثاق الذي يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والمسؤوليات والواجبات والحقوق المترتبة على كل منهما.

 

وإذا كان متوقعاً وجود مشكلة الفساد في العالم الثالث حيث الظروف مهيأة لذلك، مثل تركيز السلطة في يد صناع القرار، أو غياب المساءلة والديموقراطية، فإن هذه الظروف لا تنطبق عموماً على العالم الغربي. للفساد هنا سبب آخر. فهو وجه من وجوه الانحدار الأخلاقي المرتبط بالعولمة واقتصادها النيوليبرالي ونشوء مجتمعات الاستهلاك وأخلاقيات التشييئ. فالجميع يريد الربح السريع بأي ثمن، وليس مهماً كيف.

 

هنا يصبح الفساد مؤسسة. شبكة هرمية وظيفية من المنتفعين والفاسدين، وقد تكون طبقة سياسية بكاملها. ساعدت في ذلك التحولات الاقتصادية، خصوصاً بيع القطاع العام ومؤسسات الرفاه الاجتماعي، والخصخصة التي بلغت حد خصخصة الحروب، ومثالها شركة «بلاكووتر».

 

تُضاف إلى ذلك التحولات المالية ودور البنوك الكبرى الأساسية التي تملك اقتصاد العالم، وفي الوقت ذاته عجز المؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولية، عن وضع حد لهذه الآفة. وأحياناً، يبدو أن كثرة حالات الفساد أدت الى تطبيعه أكثر مما أدت إلى مقاومته. فالفساد ليس تُهمة إلا إذا افتُضح. والسمة الأساسية للفاسدين أو المشتبه بفسادهم هي تبلّد الإحساس إلى درجة أنهم لم يعودوا يخجلون من أفعالهم. ولا يوازي ذلك سوى تبلد إحساس الجماهير التي باتت تتابع الحدث باهتمام أقرب إلى الإثارة ثم لا تلبث أن تنصرف عنه. فقلما تحولت قضايا الفساد إلى قضايا رأي عام، كما ولّت أيام تنحي المشتبهين بالفساد.

 

فها هو فيون يواصل السباق إلى الرئاسة «حتى النهاية» رغم شبهة استحداثه وظائف وهمية لزوجته واثنين من أولاده، فيما لا تعير لوبن اهتماماً لشبهات الفساد المنسوبة إليها باستحداث وظائف وهمية لمساعدين في البرلمان الأوروبي. وها هو نتانياهو الذي تُحقق معه الشرطة في شبهات بالفساد، بعضها بتلقي هدايا بآلاف الدولارات، يعلن أنه لن يستقيل حتى لو وجهت إليه لائحة تهم. وبالنتيجة، لم تهوِ شعبية لوبن أو نتانياهو، فيما بقي فيون في السباق وبدأت حظوظه في التحسن.

 

يُقال أن «السلطة تُفسد، والسلطة المطلقة تُفسد بالمطلق». فهل من رادع سوى الأخلاق والقيم لمكافحة الفساد قبل أن يتحول إلى «تسونامي»؟ وهل أبقت النيوليبرالية لهذا مكاناً؟

مقالات متعلقة