بعد تحضيرات استمرت تسعة أشهر وجدال مرير على الملأ ومعركة مع البرلمان بدأت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي عملية التفاوض مع الاتحاد الأوروبي على الانفصال متسلحة بخطة ترجو أن تضمن لها اتفاق انفصال أفضل مما يتوقعه الكثيرون.
لكن ما هي هذه الخطة؟
رغم أن ماي نشرت وثيقة تحدد مسارا من 12 نقطة في المحادثات ستغير شكل مستقبل بريطانيا والاتحاد الأوروبي فإن صورة استراتيجيتها ليست واضحة تماما في أذهان العديد من الشركات والمستثمرين والناخبين.
وقد حافظت رئيسة الوزراء البريطانية على تكتمها فيما يتعلق بما تأمل تحقيقه حتى لا تكشف كل أوراقها. غير أن مسؤولين حكوميين وأعضاء في البرلمان ومحللين يرون أنها تعتقد أن بيدها بعض الأوراق القوية التي يمكن أن تلعب بها وفي الوقت نفسه تأمل أن يفضل مسؤولو الاتحاد الأوروبي تبني نهج عملي بدلا من الرغبة في معاقبة بريطانيا.
وقالت ماي للبرلمان "الآن هو الوقت الذي يجب أن نتآزر فيه ونتحد جميعا في هذا المجلس وفي مختلف أنحاء البلاد لضمان العمل من أجل إبرام أفضل اتفاق ممكن للمملكة المتحدة وتحقيق أفضل مستقبل ممكن لنا جميعا."
وكانت قد طلبت في رسالتها إلى دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبي تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة التي تأسس بموجبها الاتحاد الاوروبي لبدء محادثات تستمر عامين بشأن انفصال بريطانيا عن الاتحاد.
ولماي ووزرائها أهداف طموحة في المحادثات. فهم يريدون تجارة بلا أي احتكاكات وأن يمسكوا بأيديهم بمفاتيح التحكم في الهجرة وكذلك استعادة السيادة وفي الوقت نفسه الحفاظ على التعاون بقدر الإمكان مع أقرب جيران بريطانيا.
غير أن عدة مصادر حكومية قالت إن قائمة الأولويات التي أعلنت في يناير الماضي فضفاضة بما يسمح بمجال للمناورة وتأمل ماي الاستفادة من نقاط القوة لدى بريطانيا في الأمن والدفاع والعدالة الجنائية والمساعدات الدولية في التفاوض على مطلبها الرئيسي متمثلا في اتفاق للتجارة الحرة.
كما أنها ترغب في المساهمة في برامج الاتحاد الاوروبي التي قد تستبعد منها بريطانيا نتيجة لانفصالها كما أشارت إلى أنها تتوقع التوصل إلى شكل من أشكال الاتفاق الانتقالي وأبدت استعدادها لتحويل قوانين الاتحاد الاوروبي إلى تشريعات بريطانية لتقليل الالتباس.
وفي حين ستحاول الحكومة البريطانية إشاعة حسن النية قبل المحادثات فإنها ستعمل أيضا على استغلال الخلافات في صفوف الاتحاد الاوروبي فتركز على عمليات نشر القوات على الحدود الشرقية للاتحاد في مواجهة روسيا التي يتزايد اتجاهها لتأكيد دورها.
غير أن تركيز ماي ينصب على الفوز بما تصفه بأفضل صفقة ممكنة للانفصال كما أن حكومتها تتطلع لما يتجاوز ذلك، محاولة كسب ود الولايات المتحدة والهند والصين وفي الوقت نفسه محاولة جذب التكنولوجيا والصناعات القائمة على الابتكار إلى البلاد.
وفي أواخر العام الماضي قالت ماي للبرلمان "ما سنفعله هو أن نكون طموحين في تفاوضنا"، مرددة شعارا هدفه طمأنة قطاع الأعمال أنها ستحاول الحصول على أقصى امتيازات ممكنة للنفاذ إلى السوق الموحدة الاوروبية.
* مخاطر
وتنطوي هذه الرسالة على تفاؤل رغم أن مساعدي ماي يقولون إنها لن تكشف عن أي تفاصيل للموقف التفاوضي للحكومة قبل بدء المفاوضات.
غير أن مسؤولا بإحدى الإدارات الحكومية قال لرويترز إن الموظفين العموميين لم يُطلب منهم وضع خطة أساسية فحسب بل خطة احتياطية أيضا انطلاقا من إدراك أن الاتحاد الاوروبي ليس في حال تسمح له بعرض شروط سخية ربما تشجع دولا أخرى على الانفصال أيضا.
وقال المسؤول إن كل إدارة طُلب منها البحث عن المجالات التي يمكن تقديم بعض التنازلات فيها. غير أن أي إشارة إلى أن ماي قد تنكث بوعود الانفصال التي قطعتها على نفسها في مجالات مثل حقوق صيد الأسماك قد تؤلب الرأي العام عليها وتؤدي لانقسام حزبها.
وبالنسبة لكثيرين من قدامى المشككين في الوحدة الأوروبية بحزب المحافظين الحاكم فإن تفعيل المادة 50 يوم الأربعاء يمثل ذروة لسنوات من الضغط والاعتراض على الاتحاد الذي يصفونه بأنه متطفل وفيه إهدار للموارد.
وليس ثمة فرصة تذكر أن يسمح هؤلاء لماي بالتراجع عن تعهدها بالانفصال عن محكمة العدل الأوروبية ووضع نهاية لهيمنة قوانين الاتحاد الاوروبي ربما بما يقيد يديها فيما يمكن أن تقدم فيه تنازلات من عدمه.
والسعي لتحقيق التوازن محفوف بالمخاطر. ولأن أغلبية أعضاء البرلمان مؤيدون للاتحاد الاوروبي فإن الأغلبية البسيطة التي تتمتع بها ماي ستتوقف على نواب حزب المحافظين المتشككين في الوحدة الاوروبية مع ضغط إضافي من جماعات الضغط المؤيدة للانفصال وتتمتع بتمويل جيد وكذلك ما وعد به حزب الاستقلال البريطاني من القيام على "حراسة الانفصال".
وفي الجانب الآخر يقف الوطنيون في اسكتلندا وايرلندا الشمالية. فالحكومة الاسكتلندية تريد إجراء استفتاء جديد على الاستقلال وتشجع المطالبات بإجراء تصويت مماثل في ايرلندا الشمالية التي وافق الناخبون فيها على البقاء في الاتحاد الاوروبي.
وقد رفضت ماي السماح لاسكتلندا بإجراء استفتاء جديد في إطار الفترة الزمنية التي تطالب بها نيكولا ستيرجن رئيسة وزراء اسكتلندا وتشبثت برفضها إشراكها في موقفها التفاوضي وهو موقف وصفته الحكومة الاسكتلندية بالتعنت.
ومن المستبعد في ضوء التجارب السابقة أن تتنازل ماي في هذا الصدد.
والمخاطر كبيرة لماي على المستوى الشخصي إذ أن النجاح أو الفشل سيحدد صورة إنجازاتها السياسية وقدرتها على الفوز في الانتخابات.
وارتفعت شعبيتها في استطلاعات الرأي منذ توليها رئاسة الوزراء من ديفيد كاميرون الذي استقال في أعقاب الاستفتاء على الانفصال عن الاتحاد الاوروبي وسط حالة الفوضى التي يمر بها حزب العمال المعارض لكن لم يسبق لها أن قادت حزبها خلال انتخابات عامة.
الأمر الذي يكتنفه الغموض حتى الآن هو ما إذا كانت قد استقرت على قائمة أولويات في المحادثات. فبعد أن أمضت شهورا في الاستفسار من الشركات والجامعات والمستشفيات والبنوك وغيرها عن طلباتها لا تملك أغلبية هذه المؤسسات دليلا على ما إذا كانت هذه الطلبات ستلبى.
مع ذلك فأمام ماي وقت لتنقيح استراتيجيتها إذ أن الاتحاد الاوروبي سيستغرق الأسابيع المقبلة في الاتفاق على موقف تفاوضي.
وقبل أن يبدأ الأخذ والعطاء بجدية من المتوقع أن يحاول الطرفان تسوية قضيتين الأولى حجم ما تدين به بريطانيا للاتحاد والثانية الوضع المستقبلي لمواطني بريطانيا الذين يعيشون في الاتحاد الاوروبي ومواطني الاتحاد الذين يعيشون في بريطانيا.
وتقول ماي إنها تريد تسوية القضية الثانية في أوائل المحادثات وربما تواجه صعوبات في القضية الأولى لأن بعض النواب المؤيدين للانفصال لا يعتقدون أن على بريطانيا أن تدفع شيئا على الإطلاق. بل إن أحد النواب أشار إلى ضرورة تذكير ألمانيا بإلغاء بعض ديونها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.
غير أن الخطط قد تفشل على حد قول أحد كبار الموظفين في وزارة الانفصال التي أنشئت حديثا.
فقد قالت سارا هيلي المديرة العامة للوزارة أمام معهد الحكم هذا الشهر "الأمر الآخر هو توقع غير المتوقع.
"فالأحداث الخارجية سيكون لها تأثير كبير على ما يحدث في الوزارة ونحن نحتاج للتحلي بالمرونة والقدرة على الاستجابة لذلك."