"معظم المسلمين يعتقد أنّ الغرب يعتمد النفاق في الشؤون السياسية الخارجية، والعدوانية غير المبررة نحو البلدان التي تضم أغلبية مسلمة، ولا يُقصد هنا مساواة الإسلام بالإرهاب، بل الاعتراف بأن أولئك الذين ينخرطون في الحراك النضالي، يأتون من مجتمعات تنتشر فيها خطابات معينة"… هذا ما كتبه فرايزر إيغرتون، في كتابه "الجهاد في الغرب"، الذي ترجمه فادي الملحم وصدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وطرح "إيغرتون" تساؤل كيف أدّى انتشار وسائل الإعلام الحديثة وشيوع التنقل والهجرات إلى إحداث تحوّل في معتقدات المسلمين الغربيين نحو تبنّيهم أيديولوجية تدعم سلفية مقاتلة ضد الغرب. وبين سطور الكتاب أراد المؤلف، تحصيل فهم أعمق للسلفية المقاتلة التي تعدّ واحدة من الحركات السياسية الأهم اليوم، تداركًا لنقص معرفي ناتج من أنها لم تنل الفهم الذي تستحقه، وذلك من خلال النظر في العوامل التي مكّنت وسهلت ما يسميه إيغرتون "المخيال السياسي" الذي يسمح للأفراد بتصوّر أنفسهم جزءًا لا يتجزأ من معركة عالمية بين قوى الإسلام والغرب. وخلال صفحات الكتاب الذي ينقسم إلى ستة فصول بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة، تناول عدة موضوعات هي: "السلفي المقاتل"، و"مخيال سياسي مؤثر"، و"الانتقال والسرديات". وجاء الفصل الأول، تحت عنوان "مُلّا مجنون أم مقاتل من أجل الحرية؟ من هو السلفي المقاتل"، ويتعرض "إيغرتون" إلى ماهية السلفية المقاتلة، ويفضل هوية التشدّد، ويبين السرد الذي يلتزمه السلفيون المقاتلون، ويفنّد عاملين أساسين: المظالم السياسية والتفسير الديني.
ويقول المؤلف إنّ بعض الكتابات المستخدمة اليوم لتسويغ الجهاد العنيف يعود إلى نحو ألفي سنة، "وعلى الرغم من ذلك، كان يوجد دائمًا نقص واضح في مفهوم الجهاد العنيف، في معظم الأوقات، وفي معظم أنحاء العالم، لكن هذا الموقف لا يحظى بالأغلبية، كما كانت الحال دائمًا، الأمر الذي يعني أنّ الكلمات نفسها أقل أهمية من عملية تقبلها من طرف الأشخاص المختلفين الذين يتلقونها، ومن درجة الإقناع في الرسالة وشكلها". ويدرس إيغرتون في الفصل الثاني، "ما هي مشكلة هؤلاء الناس؟" باعتبارها أحد المناهج الرئيسة في شرح ظاهرة الاغتراب لفهم التشدّد بشكل أفضل إذا اعتُبر ردة فعل على فكرة الاغتراب. ويوضح أنه على الرغم من هيمنة هذه المقاربة على دراسة السلفية المقاتلة في الغرب، تحوم حولها تساؤلات موضوعية تتناول الشرعية والشعبية التي تحظى بها؛ إذ يقول: "إذا كان مفهوم الاغتراب يسمح بإدخال تفسيرات عدة، فلن تنحصر المشكلة في عدد قليل من المناضلين المقاتلين الذين يعانون الاغتراب، بل ستتطوّر ليؤثر الاغتراب في عدد أكبر من الناس الذين ينحازون إلى الكفاحية القتالية. وتابع: "بحسب هذا الاختلاط التعريفي أو التوسّع في التعريف، يمكننا اعتبار عدد هائل من الناس من بين المصابين بالاغتراب، ويزداد هذا الأمر تعقيدًا عندما تصبح منابع الاغتراب وأسبابه مبهمة".
ويرى المؤلف أن السلفية المقاتلة تعتمد على الحد من أشكال الهوية المتداخلة، لمصلحة هوية مسيطرة في النهاية، "أي هوية المسلم الذي يتعرّض مجتمعه للتهديد من أولئك المعارضين أساسًا وبالضرورة للإسلام وأتباعه؛ فدراسة ظاهرة المخيال السياسي يمكنها أن تكشف أمورًا كثيرة عن هذه العملية، لكنها تبقى، مع البنى التي تسهّلها وتتيحها، غير مكتشفة اكتشافًا كافيًا في سياق السلفية المقاتلة".
ويأخذنا الفصل الثالث، إلى "دور المخيال السياسي"، ويسأل إيغرتون: ما هي العوامل التي تُسهل على الأفراد بناء المخيال السلفي المقاتل؟. ويجيب قائلًا: "رأينا سابقًا أن المخيال السياسي السلفي يشتد حين يتخيّل المجاهد نفسه مدافعًا عن المسلمين في أنحاء العالم، أي في المعركة التي يشنها زملاؤه المقاتلون من مانشستر إلى مقديشو، ويتكون المخيال السياسي ويصير فاعلًا عندما تجتمع حوادث عالمية منوعة، وتتداخل مع حوادث محلية. وأصبح هذا الأمر ممكنًا بسبب تضافر قوى وأوضاع خاصة في هذه المرحلة الراهنة من الحداثة المعولمة. وبحسبه، تعتمد النظرة العالمية للسلفية المقاتلة على ممارسة المخيال السياسي، الذي يعتمد بدوره على شروط الإمكان في عصر الحداثة العالمية. ويُعتبر الإعلام وحركة الانتقال من أهم هذه الشروط".
ويشرح المؤلف في الفصل الرابع، وسائط المعلومات الشاملة وتكوين المجتمع المقاتل، الاستخدام المفرط لوسائل الإعلام وأهميتها الفائقة في حياة الأفراد والجماعات المقاتلة، ويقدّم تحليلًا وافيًا لتأثيرها في المقاتلين الذين شملهم الاستطلاع. وفي هذا الإطار، صور قطع الرؤوس والتفجيرات والاستشهاديين وقع بالغ الشدة، فهي تسمح للمشاهد بإسناد المعنى وتنسيبه، وهو أمر لا تقوم به أي أشكال إعلامية أخرى، لذلك، يستطيع المشاهد البعيد توليف هذه الحوادث في سردية معينة، ووضع نفسه داخل هذا السرد مشاركًا ناشطًا، ولهذه الصور أيضًا دور مهمٌ في السماح للناس المتفرقين بتخيل أنفسهم متّحدين مع الآخرين ومشاركين في النضال العالمي نفسه.
ويقول إيغرتون إن اتساع استعمال وسائط المعلومات الشاملة والتطورات الحاصلة فيها مكّن المهاجرين من الجيل الثاني والجدد من الحصول على معلومات عن الحوادث الجارية في العالم المسلم وتحليلات لها، "وسهّل هذا الأمر عملية تخيّل أمة هي عبارة عن كيان اكتسب الحياة عبر نقل الحوادث من مناطق مختلفة في العالم إلى غرف المعيشة".
وتحت عنوان "حركة الانتقال: من الفعلي إلى الأيديولوجي" جاء الفصل الخامس ليسلط الضوء على حركة الانتقال الواسعة في حياة السلفيين المقاتلين في الغرب، والنتائج التي تترتب على تلك الحركة التي تسهل قيام هويات معيّنة. ففي بيئة أكثر استقرارًا، تنطوي الحياة الاجتماعية على نشاط محلي كثيف، وهي تعكسه إلى حد كبير. أما حركة الانتقال، فتحرر الناس من قيود الأسلوب الذي قد يتصورون به أنفسهم سياسيًا، وهي تتميّز بأهمية حاسمة في الخيال السياسي السلفي المقاتل، في ما يتعلق بإعادة تصوره لمجتمع عالمي يشكّل هو جزءًا منه. ويقول المؤلف: "نظرتُ في أسماء250 سلفيًّا مقاتلًا في الغرب، فأظهرتْ المعلومات ارتفاعًا واضحًا في عدد المهاجرين بين أولئك الذين انضمّوا إلى الحركية النضالية المتطرفة، و23 % ممن شملتهم الدراسة، غير مهاجرين إلى الغرب، وينحدر عدد قليل جدًا منهم من آباء غير مهاجرين. وأوضح أن هذا الرقم يعتبر مرتفعًا مقارنةً بدراسات أخرى، حيث أظهرت دراسة مستجدة لـ"إدوين باكر" أن 17 شخصًا فحسب من بين 242 من المقاتلين السلفيين الأوروبيين الذين شملتهم الدراسة من عائلات أوروبية. وهذا يعني أنّ أقلية كبيرة منهم، وإن كانت نسبة 38 في المئة أعلى كثيرًا من تلك التي في هذه الدراسة، وُلِدت في أوروبا، ومن مجموع 219 مقاتلً، هناك 8 فقط أقاموا في أماكن أخرى من العالم قبل انخراطهم في الإرهاب في أوروبا".
أخيرًا، يقدم إيغرتون في الفصل السادس، "لماذا أنا؟" دور السرديات الأوسع والوسطاء، تفسيرًا لأسباب امتلاك القوى الكونية تأثيرًا تغييريًا في قسم صغير جدًا من المجتمع، كما هو الشأن بالنسبة إلى السلفية المقاتلة. ويرى أن جزءًا كبيرًا من الجواب يكمن في دفع السردية المقاتلة إلى حدها الأقصى عند السلفيين المقاتلين، فيما عناصر كثيرة من هذه السردية تحضر مخففة وغير مقاتلة في كثير من المجتمعات (الجماعات الإسلامية) في الغرب. وأشار أن السلفية المقاتلة تنهل من سردية قائمة على الوحدة الدينية والعداء الغربي للإسلام، وتُبنى على مفاهيم ومعتقدات راسخة، يستحوذ عليها مناضلون، ويقومون بصوغها وتضخيمها. ولفت أن من أهم الوسطاء المساعدين في هذه العملية، الذين هم على قدر كبير من الاقتدار، الدعاة الجذريون والمجموعات الصغيرة المقطوعة الجذور عن المجتمع الأوسع. والمؤلف فرايزر إيغرتون، حاصل على شهادة الدكتوراه في السياسة الدولية من جامعة ويلز، أبريستويث، وهو حاليًا زميل باحث في مركز دراسات السياسة الخارجية في جامعة دالهوزي بكندا.
وفادي ملحم؛ مترجم لبناني، يحمل شهادة البكالوريوس في الألسنيات من الجامعة اللبنانية، وله العديد من الترجمات في مجالات علمية وأدبية عديدة.