موكب جنائزي يسيطر على متن المشهد الدامي بمصر، بعدما شُيّعت، صباح اليوم الإثنين، جثامين العشرات من ضحايا تفجيرين استهدفا، أمس الأحد، كنيستين شمالي البلاد، وخلفا عشرات القتلى والمصابين، إلا أن الهوامش تحمل روايات مرعبة.
روايات الناجين من أحداث "الأحد الدامي بمصر"، كما سمته وسائل إعلام محلية، تحمل مزيداً من الذكريات، التي يصعب على من عاصروها نسيانها، لا سيما من فقدوا الأحبة قرب الهيكل المقدس بكنيسة "مارجرجس" بمحافظة الغربية (شمال)، أو حتى على أبواب "الكنيسة المرقسية" في الإسكندرية شمالي البلاد.
بعيدًا عن الزحام الذي أعقب انفجار كنيسة "مارجرجس"، اتخذت كريستينا (24 عامًا) لنفسها مكانًا قصيًا عن الأنظار، على إحدى درجات السلم الخلفي للكنيسة، ترقب الدخول في حذر، بينما عيونها معلقة على هاتفها المحمول، في انتظار حبيبٍ لن يأتي.
دموع لا تجف، ونحيب مكتوم من الفتاة العشرينية طوال ساعات انتظار بالكنيسة، التي دخلتها في الصباح مع خطيبها لحضور قداس أعياد "أحد السعف" (أحد الشعانين)، الذي يحتفل فيه المسيحيون بذكرى دخول السيد المسيح مدينة أورشليم.
و"أحد الشعانين"، هو الأحد السابع والأخير من الصوم الكبير الذي يسبق عيد الفصح أو القيامة عند المسيحيين.
أرواح فاضت إلى بارئها في سماء المدينة الواقعة بدلتا النيل، لحظة انفجار قطعت عنهم كل صلة بالحياة، وحطمت قلوبًا باتت مكلومة، كما هو الحال مع كريستينا، التي تواصلت هاتفيًا مع خطيبها قبيل وقوع الانفجار، واتفقا على الخروج من المكان فورًا، إلا أن القدر لم يسعفهما.
وعند الاقتراب من الفتاة المكلومة، لم تستطع سرد حكايتها كاملة، وكل ما قالته: "كان معايا على التليفون من ساعات، وراح" في إشارة إلى انقطاع الاتصال مع خطيبها، الذي راح ضحية إحدى الشظايا التي تناثرت في المكان من شدة الانفجار.
يُكمل رواية الفتاة أحد شباب الأقباط الذين تواجدوا بجوارها، حيث قال في حديث مقتضب لوكالة الأناضول، إن موعد زواجهما كان بعد يومين، وقررا الحضور إلى الكنيسة للصلاة معا، والتحضير للإجراءات التي تسبق الزفاف.
وأضاف: "إصابة خطيبها كانت خطيرة بسبب تواجده في قداس الرجال، الذي زرعت فيه العبوة الناسفة، بينما هي نجت لتواجدها بالقرب من هيكل العذراء في الجهة الأخرى المخصصة للسيدات".
وأشار الراوي إلى أن "كريستينا" دخلت في حالة بكاء هيستيرية، منذ أمس، بعدما انقطع التواصل مع خطيبها، خصوصًا وأنها لم تعثر عليه نهائيًا وسط المصابين.
وعلى أطراف الدمار، جلست سيدة بوجه جامد، وعينين تذرفان الدمع، تمسك بيد دامية قطعة سعف مخضبة بالأحمر، لا تنبس ببنت شفة، أثار الصدمة تكسو ملامحها كأنما العالم من حولها سراب.
الروايات المنبعثة من دلتا النيل بمدينة طنطا، لا تقل مأساوية عما وقع في الشمال بالإسكندرية.
وفي أرجاء المقر الباباوي بالمدينة الساحلية، ترددت صرخات شاب: "مات أبي"، يحاول الحاضرون مواساته أمام الكنيسة المرقسية، التي أقامها أوائل أقباط مصر قبل نحو ألفي عام، وجثث وأشلاء لرجال ونساء تناثرت بمدخل الكنيسة توسطتهم جثة طفلة كانت ترتدي لونًا زهريا حالت الدماء دون بهجته.
مثل إخوانهم الأقباط، كان للمسلمين نصيب من الموت والإصابات والحزن أيضا، كما هو الحال مع أسماء أحمد إبراهيم، ثاني ضحايا الشرطة المصرية من النساء، التي كانت تعمل عريفة شرطة.
في صفوف الضحايا المسلمين ضابطان من أفراد الخدمة الأمنية المعينة بتأمين الكنيسة المرقسية بمنطقة الرمل بالإسكندرية، هما العميد نجوى عبد العليم محمود، والرائد عماد محمد لطفي عبد المنعم الركايبى، وعريفتا الشرطة أسماء إبراهيم، وأمنية رشدي.
عدّت نجوى أول ضحية بين صفوف الشرطة النسائية منذ عام 2011، وسرعان ما لحقتا بها الشرطيتان متأثرتان بجراجهما جراء الانفجار ذاته.
على مقربة من رائحة الموت التي تملأ المكان، أمام مشرحة "كوم الدكة" بالإسكندرية كان زوج أسماء يجلس القرفصاء في انتظار خروج تصريح الدفن، حتى ينقل بجثمان شريكة حياته، إلى قريتهم (أبو منجوج) التابعة لمركز شبراخيت بمحافظة البحيرة (شمال)، بينما يجاوره أحد أقاربه يحاول تهدئته بعبارة "ادعيلها".
"كانت ضحكتها ترد الروح"، بهذه الحملة بدأ سامي عطية، قريب العريفة أسماء، سرد حكايتها، مشيرًا إلى أنها أم لطفلتين هما "ساندي ورودينا"، الأولى أربع سنوات والثانية لم تتجاوز العامين.
ويضيف أن الفقيدة ودعت أسرتها، فجر الأمس، قبل الانطلاق إلى محل عملها المؤقت بالاشتراك في قوة تأمين كنيسة "مارمرقس"، في إشارة إلى أنها كانت ضمن قوة تأمين أساسية بميناء الإسكندرية البحري قبل ذلك.
كانت مهمة العريفة، التي فاضت روحها لبارئها أمس، ترتكز على إجراءات التفتيش للسيدات، والبحث في حقائبهن ضمن إجراءات التأمين المتبعة، ولم تلتفت لاقتراب الانتحاري، الذي نفذ العملية منها لتلقى حتفها في الحال بعد انفجار الحزام الناسف.
ويحتفل المسيحيون المصريون بـ"أحد السعف" (أحد الشعانين)، الذي يسبق أعياد، ضمن أسبوع يسمى بـ"أسبوع الآلام"، غير أنه يأتي هذا العام معلنا بداية آلام طويلة تدوم في قلوب أهالي ضحايا حادثين إرهابيين مأساويين.
وبأنفاس ثقيلة تابعت مصر بالأمس على شاشاتها حادثي تفجير الكنيستين، اللذين تزامنا مع عيد قبطي، يُحي ذكرى استقبال أهالي القدس للسيد المسيح بأغصان النخيل الزيتون، غير أن العيد القبطي كساه الموت وتحول إلى مأتم.
وفجّر الحادثين غضبا في قلوب الأقباط ضد السلطة الحاكمة والنظام الأمني، في محيط الكنيستين، ترجم بهتافات اندلعت أمس، عقب الحادث وتكررت اليوم أثناء تشييع الجثامين، في إشارة منهم لـ"فشل الشرطة في تأمين دور عبادتهم"، خاصة أنه لم يكن الحادث الأول في استهداف الكنائس.
وعلى خلفية الهجومين، أصدر وزير الداخلية مجدي عبد الغفار قراراً بإقالة اللواء حسام خليفة مدير أمن الغربية، وتعيين اللواء طارق حسونه بدلاً منه.
ومطلع أبريل الجاري، شهدت محافظة الغربية، وقوع تفجير قرب مركز تدريب الشرطة بمدخل مدينة طنطا؛ ما أسفر عن إصابة 16 شخصًا.
وفي ديسمبر 2016، وقع تفجير في قاعة الصلاة بالكنيسة البطرسية في منطقة العباسية (شرقي القاهرة)؛ ما أدى إلى مقتل 29 شخصاً عدا مرتكب التفجير وإصابة العشرات.
وأمس الأحد، أعلن تنظيم "داعش" الإرهابي مسؤوليته عن التفجيريين الذين أسفرا عن مقتل 45 شخصًا وإصابة 126 آخرين، حسب أحدث حصيلة عن وزارة الصحة.
ويأتي التفجيران، قبل نحو أسبوعين من زيارة مقررة لبابا الفاتيكان فرانسيس إلى مصر، يوما 28 و29 أبريل الجاري، وهي الزيارة الأولى من نوعها منذ عام 2000، حيث أجرى آنذاك البابا الراحل يوحنا بولس الثاني زيارة إلى القاهرة.
وفي أعقاب التفجيرين، قرر السيسي، إعلان حالة الطوارئ في مصر لمدة 3 أشهر "بعد اتخاذ الإجراءات القانونية والدستورية"، وهو ما وافقت عليه الحكومة المصرية، وأعلنت تنفيذه بداية من الساعة الواحدة ظهر اليوم.