قرار الحكومة الفلسطينية خفض العلاوات على رواتب موظفيها في قطاع غزة لن يدفع حركة «حماس» الى تسليم القطاع ومؤسساته بهذه السهولة الى السلطة، كما لن يُقنع الغزيين بالانتفاض ضد الحركة وحكمها، إذا كان هذا هو المقصود.
فالقرار يمسّ أساساً الموظفين من حركة «فتح» أو المتمسكين بشرعية السلطة، فيما سِهام الغضب والاستياء الشعبي أصابت حكومة رامي الحمدالله أكثر مما أصابت «حماس».
ولا يفيد الموظفين المحتجين الاستنجادُ بالرئيس محمود عباس، فما تسرّب من اجتماع اللجنة المركزية لـ «فتح» في رام الله مساء السبت الماضي، يؤكد أن القرار أُخذ بعلمه، إن لم يكن بتوجيه منه، فيما كشفت الغضبة الأولى لأعضاء في اللجنة، قبل أن يصمتوا بطلب من عباس، أن القرار اتخِذ من دون استشارة اللجنة. وأما أن الأزمة أساسها مالي، فهذا حق يراد به باطل. صحيح أن الأزمة المالية حقيقة قائمة، لكن لماذا يتحمل الغزيون العبءَ المالي من دون غيرهم من موظفي السلطة في الضفة الغربية؟
لم تخفِ نقاشات اللجنة المركزية ذاك الرابط بين التهديد بإجراءات عقابية، بينها الرواتب، وعدم استجابة «حماس» لمبادرة عباس التي تنقلها الى غزة لجنة سداسية شُكلت لهذه الغاية. فالمطلوب من الحركة التراجع عن كل إجراءات السيطرة على القطاع، وفي القلب منها إلغاء اللجنة الإدارية التي شكلتها لإدارة القطاع، والتزام المبادرة القطرية الأخيرة التي تنص على تشكيل حكومة وحدة وإجراء انتخابات خلال ٣ أشهر.
في خلفية قرار عباس أيضاً مشورة اقتصادية تفيد بأن «حماس» لن تستطيع تحمّل فاتورة رواتب حوالى ٦٠ ألف موظف للسلطة، ما سيؤدي الى تردي الوضع الاقتصادي نتيجة نقص السيولة النقدية وتراجع القوة الشرائية، فماذا إن أضيفت الى ذلك إجراءات أخرى من قبيل قطع مخصصات الشؤون الاجتماعية للأسر المعوزة، وعودة أزمات الكهرباء والوقود، والأدوية ونقص المياه وتلوثها، والتضييق المالي من جانب البنوك؟
رغم ميل التحليلات الفلسطينية الى التركيز على البعد الداخلي لأزمة الرواتب، إلا أن حسابات عباس قد تكون وراءها اعتبارات خارجية مرتبطة بالترتيبات الإقليمية والدولية لاستئناف عملية السلام. بالتأكيد هي ليست خارج حسابات زيارته واشنطن ولقائه المتوقع مع الرئيس دونالد ترامب آخر الشهر، وربما للقول إنه مستعد لخوض معركة استعادة القطاع وتوحيد النظام السياسي الفلسطيني قبل أي تسوية سلمية... وإلا ما معنى أن يُحدِد سقفاً زمنياً لتسلّم تقرير اللجنة السداسية هو 25 الجاري، بما يستبق زيارته واشنطن؟
استتباعاً، لمَ لا يكون تحرك عباس تجاوباً مع مطالب قدمها اليه الموفد الأميركي لعملية السلام جيسون غرينبلات، وبينها طلب وقف تحويل أموال الى قطاع غزة، باعتبار أن ذلك يساهم في تمويل «حماس». ويبدو أن هذا المطلب بات دولياً، إذ سبقه إعلان بريطانيا أنها لن تساهم في دفع رواتب غزة، ومثلها فعل الاتحاد الأوروبي، قبل أن يتنصل من مسؤوليته عن قرار السلطة الأخير.
في الصورة أيضاً التفويض الذي حصل عليه عباس في القمة العربية في البحر الميت أخيراً، إن كان في قراراتها وبيانها الختامي، أو داخل الغرف المغلقة في اجتماعات ثنائية وثلاثية على هامش القمة.
إذاً، السلطة تريد استعادة قطاع غزة. ولكن لماذا تعتقد الآن، بعد عشر سنين هي عمر وصول «حماس» الى السلطة وتجذّر نفوذها، أن بوسعها إنهاء حكم الحركة والنجاح حيث فشلت إسرائيل والمجتمع الدولي؟ من قال إن «حماس» ستستسلم سريعاً، وهي التي صمدت طوال هذه السنين أمام ضغوط وأوضاع أسوأ، من الحصار الإسرائيلي والحروب، الى الانقسام الوطني والأزمات في الخدمات الأساسية والبطالة والأمراض؟ ثم من قال إن «حماس»، حين تحشر في الزاوية، لن تهرب الى الأمام، فتعيد خلط كل الأوراق بحرب جديدة مع إسرائيل تستعيد خلالها كل خيوط الدعم والإسناد؟
على المقلب الآخر، ألا يمكن أن تصبح إجراءات السلطة القشّة الأخيرة التي قصمت ظهر قطاع غزة ورسّخت الانقسام والتقسيم، في وقت تشهد «حماس» تحوّلاً ينعكس في ميثاقها الجديد الذي تستعد لإعلانه خلال أسبوع، ويتضمن تعديلات جوهرية في مواقفها من الصراع مع إسرائيل في شكل تبدو الحركة معه أكثر براغماتية واعتدالاً، بالتالي أكثر قبولاً دولياً وإقليمياً.
خفض الرواتب قضية مليئة بالثغرات والأخطار، وإخضاع «حماس» ليس سهلاً، وآلام غزة لم تعد تُحتمل. مبادرة الرئيس في جوهرها معقولة جداً إذا نُفضت عنها التهديدات، والانتخابات مخرج ليس سيئاً... ولكن هل من ضمان أو ضامن لالتزام نتائجها؟