أعترف أن قصف مطار الشعيرات فى سوريا بوابل من صواريخ أطلقتها بوارج أمريكية لم يثر فى نفسى ما أثاره لدى كثيرين من انبهار أو غضب. لم انفعل انفعال من تفاءلوا باقتراب حل للأزمة السورية ولم أشمت شماتة الكارهين للأسد.
الضربة لم تجعلنى أتوقف عن مواصلة ما كنت بصدد أن أفعله أو تحثنى على إعادة ترتيب أولويات اهتمامى الإقليمية أو المحلية. أقصى مساحة حصلت عليها الغارة من مساحات تفكيرى لم تزد عن تلك التى ناقشت خلالها بينى وبين نفسى علاقة التخطيط الأمريكى لشنها بعدم عقد مؤتمر صحفى للرئيسين المصرى والأمريكى فى نهاية محادثاتهما كما جرت عادة السيد ترامب. كنت أبحث عن سبب وجيه وراء إلغاء المؤتمر فطرأت فكرة أنه ربما اختلفت وجهتا نظر الرئيسين حول نجاعة الخطة وضروراتها مما دفعهما إلى الأخذ بفكرة الإلغاء تفاديا للحرج الذى كان يمكن أن تتسبب فيه أسئلة الصحفيين بخصوص الموقف المصرى من قصف عين شيخون بالغازات الكيماوية. *** دارت أيام لم يحدث فيها تطور له أى علاقة هامة بواقعة الغارة. الأسد فى قصره يدير علاقاته بحلفائه والروس فى مواقعهم وقواعدهم لا يتقدمون ولا ينسحبون والإيرانيون فى المعسكرات السورية ينصحون ويرشدون واللبنانيون فى أماكن كثيرة يرصدون ويتحرشون ويقاتلون وقوات المعارضة تحشد وتحسب وتنتظر السلاح الفعال الذى وعدوها أو وعدت نفسها بأنه حتما سوف يصل بعد الغارة. ولم يصل. لم يتغير الكثير وربما ولا القليل على أرض الواقع، فالأزمة بكل تفاصيلها قائمة. أطراف كانت بدأت قبل الغارة تنسحب أو تخفف من دورها استمرت تنسحب وتخفف، وأطراف كانت بدأت تعزز دورها استمرت بعد الغارة تعززه. حتى أصداء الغارة خفتت إلى درجة أن أمريكا ذاتها راحت تقلل من أهميتها العسكرية. يقال الآن إنها كانت مجرد رسالة تحذير وتهديد، يقال أيضا إن البيت الأبيض لم يكن بين خططه احتمال عودة إلى تدخل من هذا النوع خشية إغضاب قواعده التصويتية. تقول أحدث الروايات إن المؤسسة العسكرية ضغطت بكل النفوذ الممكن لإقناع ترامب بالتدخل، ولكنه التدخل الرمزى الذى يعيد إلى المؤسسة بعض سمعتها ومكانتها فى مواجهة توسع دائرة النفوذ العسكرى الروسى فى الشرق الأوسط. *** على المستوى الشخصى وبعد أن مرت أيام من المتابعة الهادئة أستطيع القول إن الغارة الأمريكية على قاعدة الشعيرات لم تكن عديمة الفائدة. سألت السؤال المنطقى، كيف يمكن لتدخل عسكرى أمريكى طال توقعه بالخوف عند أطراف فى الأزمة السورية وطال انتظاره بالأمل عند أطراف أخرى، أن يقع دون أن يحرك شيئا ولو تافها فى هذا الركود المريع فى تطورات الأزمة. لم أعثر بعد على إجابة مرضية ولكنى ازددت مع البحث اقتناعا بانطباعات ظلت تراودنى لفترة سابقة على الغارة وأظنها ترسخ شيئا فشيئا. من هذه الانطباعات، على سبيل المثال ولغرض النقاش وليس حصرا، أختار لأعرض ما يلى: خطر على بالى أن التدخل الأمريكى، على تفاهته، أكد انطباعنا المتجدد بأن الجامعة العربية فقدت به سببا آخر من أسباب وجودها. نذكر الظروف التى رافقت تدخل بعض أعضاء جامعة الدول العربية فى سوريا فى المراحل الأولى للثورة السورية، أى قبل أن تتحول الثورة فى سوريا من أزمة داخلية إلى أزمة إقليمية حادة ثم أزمة دولية خطيرة. دعونا نتصارح لنتفهم ونفهم. أطراف، هم أعضاء فى الجامعة تدخلوا تحت شعار الدفاع عن ثورة شعبية فى مواجهة نظام حكم ديكتاتورى متطرف ومتشدد. هؤلاء الأعضاء لا ينتمون بأى شكل من الأشكال إلى نادى الثورة العالمية أو أى ناد آخر للثورة. مستحيل شكلا وموضوعا القبول بتبرير التدخل دفاعا عن ثورة من جانب دول عربية تناهض الثورة مفهوما وفكرا وولاء. وسيكون مستحيلا شكلا وموضوعا القبول باستمرار الجامعة تعمل كمؤسسة إقليمية أو بالأحرى «قومية» وهى الجامعة التى أقرت هذا التدخل غير المبرر وغير الحائز على الشرعية الواجبة. هذا التدخل الذى عجل بفقد الجامعة لصدقيتها وخلق وضعا صعبا عجزت هى نفسها عن مواجهته وتسويته، وشجع أطرافا دولية وإقليمية على اختراق النظام العربى وتعريض أمنه بل وجوده للانفراط. أعود إلى اقتناعى البسيط ولكن الثابت، وهو أن الأصل فى الأزمة العربية الراهنة لم يكن ثورات ما عرف بالربيع العربى بل فوضى ورداءة التعامل معها. أعود أيضا إلى فرضيتى الأساسية عن نشأة ونجاعة النظام الإقليمى العربى وهى أنه طالما سمح لآخرين بامتلاك حق التدخل بلا حدود فى نزاعات دول الإقليم وشئونه فليستحق الهوان والامتهان بل والانفراط إن تمادت الدول الأجنبية فى التدخل. *** ازداد رسوخا انطباع ثان. كنت وما أزال موقنًا بأن النظام الدولى يتجه تدريجيا نحو شكل يقع بين النظام ثنائى القطبية والنظام متعدد القطبية. أمريكا، باعتراف أولى الأمر فيها انحدرت قليلا أو كثيرا ففقدت حلم الانفراد بقيادة العالم فى نظام أحادى القطبية، ودليلنا هو ظاهرة دونالد ترامب وشعار العودة إلى زمن العظمة الأمريكية وشعار أمريكا أولا. من ناحية أخرى، ظهر فى روسيا من يقود عملية إصلاحية كبيرة ويعيد بناء القوة العسكرية بما يسمح باستعادة موقع القطب الثانى فى نظام تأمل موسكو فى أن يكون ثنائى القطبية. القطبان الروسى والأمريكى يراهنان على أن الصين لن تحتل، وربما لا تريد فى الأجل القصير والمتوسط احتلال، موقع القطب الثالث فى نظام متعدد الأقطاب. أتصور، فى إطار هذا الانطباع، أن يقنع النظام الروسى بموقع القطب الثانى فى نظام ثنائى القطبية غير عالمى بمعنى أن يكون قاصرا على إقليم أو أقاليم محدودة مثل الشرق الأوسط وأوروبا. بكلمات أخرى تتقاسم الدولتان الأعظم روسيا وأمريكا النفوذ وتتعاونان أو تتنافسان فى مساحة محدودة من العالم وليس على العالم بأسره كما كان الوضع خلال الحرب الباردة. أتصور أيضا، وفى إطار الانطباع نفسه، أن يقنع النظام الصينى بموقع القطب الثانى فى نظام ثنائى القطبية غير عالمى بمعنى أن يكون قاصرا على إقليم أو أقاليم محدودة مثل جنوب وجنوب شرق وشرق آسيا والمحيط الباسيفيكى. بكلمات أخرى تتقاسم الدولتان الأعظم الصين وأمريكا النفوذ وتتعاونان أو تتنافسان فى مساحة محدودة من العالم. أيقنت عند سماعى بأن أمريكا تشاورت مع روسيا، أو على الأقل أحاطتها علما، قبل تنفيذ خطتها القيام بعمل عسكرى ضد سوريا، أن الدولتين الأعظم فى الشرق الأوسط تتعاونان وتتنافسان وتتقاسمان النفوذ وتلعبان دور اللاعبين الأساسيين فى «نظام دولى ــ إقليمى ثنائى القطبية». أيقنت أيضا أن قصف قاعدة الشعيرات وردود الفعل لها من علامات هذا النظام ومن مؤشرات وجوده وربما رسوخه. *** أكدت الغارة الأمريكية انطباعا ثالثا. الحرب ضد الإرهاب لم تبدأ بعد، وقد لا تبدأ فى وقت منظور. هناك حروب محلية محدودة جدا ضد إرهاب وهناك مؤتمرات ودراسات عديدة عن أسبابه وإجراءات الحيطة والاستعداد له ونشأت أحلاف تحمل اسمه، لا أكثر. أهم من كل ما سبق أن دولا قليلة أو كثيرة لا تزال تمول الإرهاب بالمال وتزوده بالرجال والنساء وتغذيه بالفكر المتطرف وتحميه بأجهزة مخابرات متخصصة فى تدريب الإرهابيين وتهريبهم. الواضح لكثير من المراقبين هو أن هناك فى دول عديدة كبيرة وصغيرة جماعات وأجهزة مستفيدة من استمرار الإرهاب. واضح أيضا أن الكلام كثير جدا عن مكافحة الإرهاب ولكن العمل الجاد المؤثر شحيح للغاية. تؤكد الغارة الصاروخية على قاعدة جوية قرب حمص بوسط سوريا أن اعتبارات أخرى غير الإرهاب لها الأولوية فى استراتيجية الغرب وحلفائه فى الشرق الأوسط. *** يبدو أننا فى الشرق الأوسط، وفى العالم العربى بوجه خاص، لا نزال نعانى من ارتباك فى النظرة إلى الإرهاب وفى أساليب مواجهته. نعرف أسبابه ونخمن بكفاءة عالية مصادر نشأته وقوته وحصانته، ولكننا حكاما ومحكومين عاجزون عن البوح بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن الشروق