محمد الرميحي يكتب.. مصر السيارة

محمد الرميحي

أن تنظر في وجوه من حولك فتري قهرًا بداخلك واضحًا على ملامحهم.. أن تتحدث إلى واحد منهم يجاورك في سفر طويل بحكم المواصلات فيحدثك عن تركه لزوجته في منزله المستأجر دون مليم واحد يسدّ رمق أطفالهم أو يغطي شيئًا قليلًا من إيجار المنزل المتراكم منذ أشهر مضت..

أن تجد سيدة عجوزًا تشتكي حالها وذهابها للقاهرة عدة مرات أملاً في فرصة علاج على نفقة الدولة لزوجها القعيد.. أن تلتقى بجندي تفاصيل كفيه تصف طبيعة عمله الصعب يحكي لك عن اشتياقه لنزول الإجازة كل واحد وعشرين يومًا ليس للاستمتاع بوقت راحته مع أهله وإنما طمعًا في أن تسلم يداه على فأسه ويطأطأ رأسه وظهره انحناء للقمة عيش حلال تستند إليها أمُّه وأخواته البنات الخمس أثناء خدمته في الجيش..

في وسط هذه القصص الحياتية الصعبة، تفيق على صوت السائق يصيح في وجه أحد الركاب خلافًا على قيمة الأجرة، يريد السائق عشرة جنيهات قيمة تحميل حقيبة مع هذا الراكب والذي بدوره يقول للسائق، ليس معي إلا ما دفعته لك وهذه الحقيبة ليس بها إلا العسل الأسود و«المش» وبعض أرغفة الخبز، أعيش عليها في الصحراء لمدة أسبوع من اليوم حتى أعود من عملي في المعمار.. صوت آخر يلفت انتباهك، تستمع لرجل يشكي حاله عبر الهاتف لأحد أصحاب الحقوق عليه ويزفّ إليه كثيرًا من الحجج أو الأسباب التي دفعته للتأخر في سداد ما عليه، يفتح أحد الناس نقاشًا في السياسة فيردّ عليه راكب آخر (اسكت وكل عيش الحيطان ليها ودان)..

يرفع السائق من صوت إذاعة القرءان الكريم، ليهدأ كل الراكبين حتى أترك السيارة وأذهب لمدينة الإنتاج الإعلامي، وعلى بوابة رقم ٢ أجد مجموعة من (الغلابة) يجلسون علي الطريق ويرفعون بعض اليافطات يطالبون فيها بمكان يأويهم بدل احترافهم السكن في العراء...

تمر الدقائق سريعًا وأصل إلي قناتي، ويبدأ عملي ويأتي الدور على الملف المصري في نشرة الأخبار، لأجد أخبارًا في انتظاري في ثناياها أحكام بالإعدام بالجملة وأخبار أخرى تزف البشرى وبالتتابع لنظام مبارك والبراءة للجميع، وتأتيك مداخلات هاتفية ممن يسمون بالمحللين السياسيين، لا يستطيعون إلا التطبيل للحكومة وللرئيس، يحدثونك عن الاستقرار الأمني والارتقاء بالمستوى الصحي والرخاء الاقتصادي وحرية التعبير عن الرأي، بينما يتداخل معي خبراء قانونيون لا يعرفون عن القضاء في مصر سوى جملة واحدة (القضاء الشامخ)..

وقبل أن تنتهي النشرة يأتيك خبر عاجل بمقتل وإصابة المئات من المصريين بتفجير كنيسة ومحاولة تفجير أخرى، وفي خِضَمّ التحليلات والنقاشات عن محاربة الإرهاب. يدور شيء داخل البرلمان من شأنه تسهيل تسليم تيران وصنافير للسعودية.. أذهب لأفكر في حال مصر الذي وجدته في السيارة، مصر العروس الملتفحة بالسواد الذي يغطي شعرها المقطوع وجسدها الذي أنحله الجوع، تلتفحه خوفًا من أن يراها أحد سعيدة بعد أن ماتت فرحتها يوم زفافها، ماتت فرحتها حزنًا على أهلها وخوفًا علي أبنائها الذين لم يولدوا بعد، وهي تقول بأعلى صوتها: أقيموا العدل بينكم تشعروا بالأمن وتستقم حياتكم.

مقالات متعلقة