مصر في نظر السودانيين.. من حبيبٍ إلى مغتصب

السيسي والبشير

 

"مصر وما مصر سوى الشمس التي بهرت بثاقب نورها كل الورى.. ملء روحي أنتِ يا أخت بلادي.. سوف نجتث من الوادي الأعادي".. قبل عشرات السنوات حجزت مصر مكانها كحبيبٍ في أشعار السودانين، قبل أن تصير بأقلامٍ آخرين محتلًا لقطعة أرض.. الحديث عن حلايب، التي تؤكِّد مصر تبعيتها لها بينما تراها الخرطوم أرضها وتعتبر مصر مغتصبًا.

 

"القاهرة - الخرطوم" كان محورًا متينًا، رُبطت أواصره منذ إعلان محمد علي باشا انضمام السودان إلى مصر للمرة الأولى عام 1822، إلا أنَّ التحالف بين شعبي وادي النيل، ورغم تفككه عام 1956، لكنَّه دخل يومًا ما ذهب خبراء إلى تسميته بـ"الصراع الدفين"، وانتقل الآن إلى العلن.

 

عدة قضايا أثارت أزمات بين الخرطوم والقاهرة، جاء آخرها اتهام وزير الدفاع السوداني عوض بن عوف بأنَّ القوات المصرية تمارس ما أسماها "استفزازات" في حلايب، وذلك في جلسة مغلقة للبرلمان.

 

الوزير قدَّم للبرلمان تفاصيل "الاستفزازات" من قبل القوات المصرية في مثلث حلايب، وقال إنَّ جيش بلاده مارس ضبط النفس في انتظار ما ستسفر عنه المساعي السياسية على مستوى الرئيس السوداني عمر البشير ونظيره عبد الفتاح السيسي.

 

اتهام الوزير السوداني بشأن حلايب يندرج ضمن مسلسل تتعدد حلقاته، تقول الخرطوم إنَّ حلايب تابعة لها، بينما ترد القاهرة بتأكيد تبعية هذه المنطقة إليها.

 

لم ترد القاهرة مباشرةً بل جاء الرد ضمنيًّا، فللمرة الأولى بثَّ التلفزيون المصري خطبة أمس الجمعة من شلاتين، في خطوة فسرها مراقبون بأنها تأتي في إطار التصعيد المتبادل بين البلدين.

 

 

لم يغب عن المشهد أيضًا الهجوم الإعلامي من الجانبين، وبخاصةً بعد الكشف عن "أهرامات سودانية"، وزيارة الشيخة موزة بنت ناصر والدة أمير قطر تميم بن حمد، والتي اعتبرها إعلاميون تهدف إلى إثارة تصعيد سوادني ضد مصر على خلفية الأزمة بين النظامين في مصر وقطر منذ "3 يوليو".

 

وكانت الشيخة موزة قد نشرت صورةً لها في أماكن أثرية عديدة من بينها الأهرامات البحراوية في السودان بمنطقة مروى التاريخية الأثرية، بصفتها عضو مجموعة مدافعة عن أهداف التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، وزارت خلالها ميدانية لمشروعات مؤسستي "التعليم فوق الجميع" و"صلتك".

 

وعقب ذلك، بدأت حملة سخرية إعلامية متبادلة بين الجانبين، حتى قال سفير السودان بمصر عبد المحمود عبد الحليم، في تصريحات نقلتها شبكة "سي إن إن" الأمريكية: "الإعلام المصري يشن حملة ممنهجة ضد السودان ويسخر من تاريخها".  

كان ذلك جزءًا من سياق زيارة سامح شكري وزير الخارجية إلى السودان، وتوجُّه البلدين نحو مناقشة ميثاق شرف إعلامي بهدف تجنب التعامل غير المسؤول من جانب بعض الدوائر الإعلامية.   

أزمة حلايب.. نزاع قديم يتجدد

 

في يناير 1899، صنَّف الحكم الثنائي الإنجليزي المصري مثلث حلايب تابعًا لمصر، لكنَّه ضمها إلى السودان في 1902 نظرًا لقربها من الخرطوم؛ بسبب امتداد القبائل البشارية فيه.

 

ظلَّت المنطقة تابعةً إداريًّا لما كان يعرف بـ"السودان المصري"، لكن مع إعلان استقلال السودان عام 1956 تفجَّر النزاع الحدودي بين البلدين.

 

وكانت حلايب – التي تبلغ مساحتها 20 ألفًا و580 كيلو مترًا مربعًا - دائرة انتخابية سودانية خلال انتخابات ما عرف بالحكم الذاتي السوداني، وحاولت مصر منع إجراء الانتخابات السودانية عام 1958 في حلايب، وكادت تحدث مواجهة عسكرية بينهما.

 

وعاد الخلاف حول حلايب إلى البروز عام 1995 مع محاولة السودان التنقيب عن البترول فيها، وفي العام ذاته سيطرت مصر عسكريًّا بالكامل على حلايب إثر محاولة فاشلة لاغتيال الرئيس - آنذاك - حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.

 

وفي 2010، اعتمدت مصر حلايب ولاية انتخابية وشملتها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عامي 2011، و2012، بينما أدرجتها السودان ولاية انتخابية تابعة لولاية البحر الأحمر.

 

وفي أبريل 2016، رفضت القاهرة طلب الخرطوم التفاوض المباشر بشأن حلايب أو اللجوء للتحكيم الدولي، غير أنَّ السودان جدَّد شكواه لمجلس الأمن لتأكيد تبعية مثلث حلايب لسيادته.

 

  نفاذ صبر سوداني

 

الصادق الرزيقي رئيس تحرير جريدة "الانتباهة" السودانية قال إنَّ حديث وزير الدفاع السوداني يعبِّر عما أسماه "نفاذ صبر" بلاده على هذا الوضع، لافتًا إلى أنَّ "مثلث حلايب محتلٌ من قبل الجيش المصري منذ عام 1992".

 

وأضاف: "هذه الاستفزازات والمضايقات من قبل الجيش المصري تجاه الجيش السوداني هي مستمرة منذ ذاك العام، حيث يحتفظ السودان بقوةٍ داخل مثلث حلايب، وظلَّت هذه القوة تتعرض لاستفزازات ومضايقات من الجيش المصري طيلة هذه الفترة إما بمنع وصول الإمداد ومياه الشرب بحكم أنَّ المنطقة لا توجد بها مياه عذبة، وكذلك التغييرات الروتينية لتغيير القوات".

 

وتابع: "القوات المصرية ظلَّت تفرض حصارًا خانقًا على القوات السودانية، لكن مؤخرًا زادت هذه الاستفزازات بعد المناورات الجوية العسكرية السودانية السعودية وبعد زيارة الرئيس السوداني لإثيوبيا العام الماضي، وهذه الاستفزازات تعبير عن الجو السياسي المشحون الآن بين البلدين".

 

الأرض مصرية

 

الخبير الاستراتيجي اللواء محمد منير أكَّد مصرية حلايب، قائلًا إنَّ الخرطوم تقدِّم ما أسماها "ادعاءات باطلة" في هذه القضية.

 

منير قال لـ"مصر العربية": "خط الحدود الدولية الجنوبية لمصر هو خط عرض 22، وهذا الخط الأساسي في تعيين الحدود بين البلدين، والأمم المتحدة أقرَّت عدم الاعتداد بأي نزاعات حدودية".

 

وأضاف: "الأقوال السودانية هي محض افتراء، فهي كانت تدير منطقة حلايب بقرار من وزير الداخلية في عقود سابقة حينما كانت السودان جزءًا من مصر، حيث كان التنقل بين البلدين لا يحتاج إلى جوازات سفر، ولكن هذا لا يعني ملكية السودان لها".

 

 

"ذر للرماد في العيون" هو وصفٌ أطلقه منير لكل حديث سوداني عن تبعية حلايب لها، وأوضح: "عندما تحدث مشكلات داخلية في السودان تحاول السلطات الخروج منها فإنَّها تثير مسألة حلايب".

 

العلاقات بين البلدين رأى منير أنَّها أزلية، لا ترتبط برئيس بعينه، وذلك ردًا على سؤاله عن طبيعة العلاقة بين السيسي والبشير، فقال: "مواقف البشير تجاه مصر تتغير بين كل فترة وأخرى، فهو سبق أن كرمه الرئيس السيسي على مشاركته مع الجيش المصري في الحرب لكن فور عودته إلى السودان أطلق تصريحات مخالفة لما تم الاتفاق عليه في القاهرة بخصوص حلايب".

 

ربط منير بين التصعيد السوداني الأخير وزيارة الشيخة موزة والدة أمير قطر تميم بن حمد إلى السودان مؤخرًا، معتبرًا أنَّ "تصريحات عدائية" خرجت من الخرطوم ضد مصر عقب هذه الزيارة مباشرةً، وهو ما اعتبره غيابًا للوضوح في الموقف السوداني تجاه مصر كونه يتغير بين حينٍ وآخر.

  التصعيد السوداني.. استهلاك محلي

 

السفير معصوم مرزوق مساعد وزير الخارجية الأسبق للشؤون الإفريقية اعتبر أنَّ "الاستهلاك المحلي" هو الهدف من أي تصعيد سوداني في التصريحات بشأن ملف حلايب، مؤكِّدًا أنَّ الجانب السوداني يستغل هذا الأمر للتغطية على أزمات داخلية يمر بها.

 

مرزوق أوضح لـ"مصر العربية": "حلايب وشلاتين أرض مصرية، والتصعيد السوداني لا يجب أن يكون بداية لحملات إعلامية متبادل.. علينا ضبط النفس لأنَّ التصعيد ليس من مصلحة أحد".

 

ما يبدو تناغمًا ظاهريًّا في العلاقات بين السيسي والبشير يرى مرزوق أنَّه ليس معيارًا، بل ذهب إلى القول: "هناك من القادة العرب من يضع خناجرهم في ظهور بعض".

 

مرزوق حذَّر من خطورة التصعيد في المرحلة المقبلة بين البلدين، مستشهدًا بما حدث إزاء محاولة اغتيال الرئيس المخلوع حسني مبارك "خلال رئاسته" بإثيوبيا في نهاية القرن الماضي وما تردَّد عن تورُّط سوداني في المحاولة، إذ تصاعدت أصوات تنادي بتوجيه ضربة عسكرية إلى الخرطوم كنوعٍ من التحذير عليها، وهو أمرٌ اعتبره مرزوق كافيًّا بأن يثير مخاطر كبيرة على البلدين.

 

  مصر تعاملنا بقسوة

 

بكري المدني رئيس تحرير صحيفة الوطن السودانية ربط بين الداخل المصري اقتصاديًّا وسياسيًّا وأزمة حلايب، فقال: "الجانب المصري يحاول إلهاء الشعب المطحون بالقضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولإيهام الرأي العام المصري بأنَّ الوضع العسكري في منطقة حلايب يستدعي تعزيز القوات المصرية".

 

وأضاف لقناة محلية: "لا يوجد في حلايب ما يستدعي التصعيد المصري الخطير، لأنَّ الوضع العسكري السوداني هناك لم يتغير منذ 1995، فلدينا كتيبة 101 مشاة وهذه الكتيبة لم يتم تعزيزها مطلقًا، وقواتنا هناك في وضع الأسرى ويتم التعامل معهم بقسوة شديدة جدًا".

  العقوبات.. خلاف آخر

 

اتهام وزير الدفاع السوداني لمصر تزامن مع تصعيد سياسي، فطالبت الخرطوم، القاهرة بتفسير موقفها الداعي لإبقاء العقوبات الدولية المفروضة على الخرطوم، فيما نفت القاهرة ضمنيًّا دعوتها لإبقاء تلك العقوبات.

 

وكالة الأنباء السودانية الرسمية نقلت عن وزير خارجية بلادها إبراهيم غندور قوله إنَّ "السودان طلب رسميًّا من مصر تفسيرًا للأمر الذي شذَّ عن كل مواقف مصر السابقة طوال السنوات الماضية، حيث كان موقفها دائمًا الأكثر دعمًا للسودان في مجلس الأمن".

 

ومدَّد مجلس الأمن في فبراير الماضي ولاية لجنة العقوبات الدولية بشأن إقليم دارفور لمدة عام ينتهي في 18 مارس 2018، وتجدد العقوبات سنويًّا وهي متعلقة بحظر بيع الأسلحة للسودان، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

 

 

في المقابل، أوضح أحمد أبو زيد الناطق باسم الخارجية المصرية أنَّ اجتماعات لجان العقوبات الخاصة بالأوضاع في دارفور تقتصر على أعضاء مجلس الأمن فقط، ولم تناقش من قريب أو بعيد في اجتماعاتها الأخيرة "لم يحدد متى عُقدت" مسألة تمديد العقوبات على السودان.

 

وألقى باللوم على السلطات السودانية، قائلاً: "كان من الأحرى أن يستقي الأشقاء السودانيون معلوماتهم بشأن المواقف المصرية من بعثة مصر الدائمة لدى الأمم المتحدة بشكل مباشر، خاصة وأن التنسيق بين البعثتين المصرية والسودانية قائم ومستمر بشكل دوري".

 

وأضاف: "مجلس الأمن قد أصدر بالفعل القرار 2340 في 8 فبراير الماضي بتمديد تلك العقوبات لمدة عام قادم، ومصر كانت من أكثر الدول التي قامت بدور فعال في اعتماد قرار متوازن يحافظ علي المصالح العليا للشعب السوداني الشقيق"، في نفي "ضمني" لتأييدها تمديد العقوبات.

  للخلافات.. أشكال أخرى

 

ضمن حلقات الخلافات بين القاهرة والخرطوم، ظهر الرئيس السوداني عمر البشير قبل أشهر متحدثًا عما أسماه دعمًا عسكريًّا تقدِّمه مصر إلى جنوب السودان -الدولة المنفصلة عن السودان قبل ستة أعوام-

 

البشير نقلت عنه صحيفة "سودان تريبيون" السودانية، أثناء عودته من زيارة أجراها لأبو ظبي قبل أيام، قوله: "مصر لم تشن هجومًا على مواقع المعارضة في مدينة كاكا بجنوب السودان، كما زعم المتمردون، إلا أنَّ استخباراتنا توصلت إلى أنَّ مصر تدعم حكومة جنوب السودان بالأسلحة والذخائر".

 

حكومة الجنوب ردَّت على البشير، فأعربت عن أسفها لحديث الرئيس السوداني بشأن دعم مصر العسكري لجوبا، وأكَّدت أنَّ تصريحات البشير لا أساس لها من الصحة، وبخاصةً أنَّها تأتي بالتزامن مع الجهود التي تبذلها كلتا الدولتان لإحلال السلام والاستقرار بالمنطقة.

 

 

تزامن ذلك أيضًا مع تأجيل زيارة سامح شكري وزير الخارجية إلى السودان بسبب ما قيل إنَّه سوء المناخ الطبيعي حسبما أعلنت القاهرة، إلا أنَّ ذلك لا ينفصل عما بات يفسَّر على أنَّه "قتامة" في المناخ السياسي بين البلدين".

  التأشيرة.. صناعة حدود

 

أيضًا صدر قبل أيام قرار سوادني بفرض تأشيرات على المصريين الذكور الراغبين في زيارة السودان الذين تتراوح أعمارهم بين الـ18 و50 سنة؛ تطبيقًا لمبدأ المعاملة بالمثل كما فسَّرت الرواية السودانية، وهو ما أثار حالة غضب في مصر.

 

إبراهيم الغندور وزير الخارجية السوداني قدَّم توضيحات بشأن القرار، وأرجعه إلى منع تسلل من وصفهم بـ"الإرهابيين".

 

وأضاف - كما نقلت عنه "سكاي نيوز عربية" - أنَّ قرار فرض التأشيرة جرى اتخاذه بالتشاور بين البلدين، موضِّحًا أنَّه لا يشمل المواطنات المصريات.

 

ومنذ 2004، لم يكن المصريون بحاجة إلى تأشيرة لدخول السودان، لكن مواطني السودان لا يمكنهم زيارة مصر دون تأشيرة.

 

إيواء معارضين

 

بين حينٍ وآخر، يتحدث البشير عن أزمة "إيواء مصر لمعارضين سودانيين"، بل ذهب إلى القول - في حوارٍ مع "العربية نت"، مطلع فبراير الماضي - إنَّ المخابرات المصرية تدعم هؤلاء المعارضين، كاشفًا أنَّ حكومته في كل لقاء بين البلدين تطلب الخرطوم من القاهرة وقف دعم المعارضة السودانية، وهوما نفته القاهرة.

  سد النهضة.. مشروع الأزمة

 

سد النهضة أيضًا كان جزءًا من الخلافات،  فالمشروع الإثيوبي - الذي يثير مخاوف في القاهرة من التأثير على حصتها المائية – أعلنت السلطات السودانية علنًا في ديسمبر 2015، رسميًّا تأييدها إنشاء سد النهضة، وذلك بعد تأكُّدها من منافع السد لها، إلا أنَّ ذلك يأتي على حساب التخوف المصري على حصتها.

مقالات متعلقة