على طريقٍ مدجج بالسلاح يواصل الليبيون بحثهم المرير عن الدولة.. الدولة التي لم يذوقوا منها غير العنف منذ اندلاع ثورتهم في 2011 ضد الرئيس الراحل معمر القذافي، الذي تركهم بلا شيء، سواء مؤسسات أو جيش، بل في غابة سلاح حمله الناس ضد النظام حين ثاروا ضده، فباتت ليبيا أقرب ما تكون إلى أن تكون ثلاث دول.
ست سنوات مرت على الثورة، والليبيون يعايشون الرصاص مثل الخبز، وباتت الدولة مسرحًا لتنظيمات متطرفة، وغابت عن الأفق أي بوادر لحلٍ يحافظ على وحدة الدولة ويحفظ تطلعات الدولة.
وسط الغيوم لاحت في الأفق خريطة من أقصى بقاع الدنيا، هناك من البيت الأبيض، كتبها على منديل من ورق - حسب صحف أجنبية - سباستيان جوركا مساعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تتعلق بخطة أمريكية لتقسيم ليبيا إلى ثلاث دول، يعود تاريخها لأقاليم الإمبراطورية العثمانية في القرن السادس عشر.
"كيف يمكن أن تصبح خمس دول 14 دولة؟".. الحديث عن تقسيم دول عربية إلى دويلات صغيرة أعاد إلى الأذهان هذا العنوان، الذي كتبته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية قبل سنوات، وسبقتها خرائط مماثلة من مراكز أبحاث ومؤسسات سياسية غربية، اشتركت في نظرة استشراقية تقسِّم المجتمع على أساس الطائفة والعرق.
3 حكومات.. من يحكم؟
تعاني ليبيا أيما معاناة من انقسام سياسي وأمني لا سيَّما منذ انطلاق عملية الكرامة بقيادة خليفة حفتر في 2014، حيث توجد ثلاث حكومات اثنتان في العاصمة طرابلس "الوفاق والإنقاذ"، وثالثة في مدينة البيضاء شرقي البلاد "المؤقتة"، وتسيطر قوات حفتر على معظم إقليم برقة بينما يسيطر تحالف لكتائب الغرب الليبي وعلى رأسها كتائب مصراتة على معظم أجزاء إقليمي طرابلس وفزان.
"الجنوب الليبي" كان مسرحًا لاشتباكات تجدَّدت هناك بين قوات حكومة الوفاق والجيش الوطني خلال الأيام الثلاثة الماضية، وهو ما دعا فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني أن يطالب المجتمع الدولي بـ"التدخُّل العاجل لوقف تدهور الأوضاع".
دعوة السراج للمجتمع الدولي بأن يتدخل في ليبيا جاءت بعد أيامٍ قليلة من الكشف عن الخريطة الأمريكية، وهنا بات المجال مفتوحًا أمام شياطين التفاصيل لتفسِّر ما يدور في ليبيا، أو ما يخطَّط لها لأن يكون.
مخطط أمريكي.. 3 دول في ليبيا
الخطة الأمريكية كشفتها صحفية "جارديان" البريطانية، إذ قالت - ما هو نصه - إنَّ مسؤولًا أمريكيًّا عرض خريطة لتقسيم ليبيا إلى ثلاث دول على أساس أقاليمها الثلاثة القديمة، مرسومة على "منديل"، طرابلس في الغرب، وبرقة في الشرق، وفزان في الجنوب.
التقرير الذي اشترك فيه جوليان برجر من الولايات المتحدة وستيفاني كيرشغاسنر من إيطاليا كشف أنَّ مسؤولًا كبيرًا في البيت الأبيض "مكلف بالسياسة الخارجية" رسم أمام دبلوماسي أوروبي خريطةً لتقسيم ليبيا إلى ثلاث دول.
لم تكشف الصحيفة عن هوية المسؤول الأوروبي، ولكنها بينت أنَّ جوركا مساعد هو المسؤول الأمريكي الذي اقترح تقسيم ليبيا، قبل أسابيع من تنصيب ترامب رئيسًا في 20 يناير الماضي.
"جارديان" نقلت عن مصدر - لم تسمه، لكنَّها قالت إنَّه على علم بالموضوع - أنَّ الدبلوماسي الأوروبي الذي بيَّنت تقارير إعلامية - فيما بعد - أنَّه ماتيا توالدو كبير الدبلوماسيين في المجلس الأوربي للعلاقات الخارجية، ردَّ على جوركا بأنَّ التقسيم هو أسوأ حل يمكن تصوره في ليبيا.
مدى الخلافات في ليبيا ربطها محللون بجهات نافذة تسعى بكل ما ملكت يمينها أن تغيِّب الحل السياسي وتصل بالأزمة إلى حد التعقيد، ما يسير في خط متناسق مع مخطط التقسيم.
تلميح من عقيد
العقيد أحمد المسماري المتحدث باسم القوات المسلحة المنبثقة عن مجلس النواب بطبرق "شرق"، والتي يقودها خليفة حفتر، ردَّ على هذه الخلافات، فقال: "لا يوجد صراع بين ليبي وليبي على الإطلاق، ولا يوجد صراع سياسي، لكن الصراع في البلاد هو بين الليبيين والإرهاب".
وفي حديث تلفزيوني، تحدَّث عن أنَّ هناك من يستغل هذا الصراع ويظهر بعباءة مدنية رغم كونه قائدًا فيما أسماها "الجماعات الإرهابية".
حديث المسماري لم يكن المقصد من ورائه السراج، فأوضح: "السراج راجل ليبي معروف ولا نقول عنه إرهابي، لكن في المجلس الرئاسي هناك العماري وهو من الجماعة الإسلامية المقاتلة، وهي جناح لتنظيم القاعدة، وهذا خطر كبير لأننا عندما نتحاور نكون في حوار مع تنظيم القاعدة في هذه الحالة".
المسماري اعترف أنَّ الأزمة السياسية بين مجلس النواب والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق له مؤثر سلبي على سير المعارك، وما دعاها "الحرب على الإرهاب".
"المتحدث" تحدَّث في هذا الإطار عن أطرافٍ قال إنَّها تريد إفشال أي مساعي لحل الأزمة الليبية، لكنَّه لم يحدِّد من هي هذه الأطراف، لكنَّ "شياطين التفاصيل" قد تربط بين ذلك ومخطط التقسيم، ومدعى ذلك أنَّ الجهات الراغبة في التقسيم لها من توظِّفهم لخدمة مصالحها في الداخل الليبي.
التاريخ يرد على مستشار ترامب
جيوف بورتر أحد كبار المستشارين في مؤسسة الشمال الإفريقي لاستشارات المخاطر ردَّ مخطط جوركا، فقال – في مقال بمجلة "بوليتكو ماجازين – إنَّه الصراع الليبي لا يمكن أن ينتهي كذلك.
بورتر أضاف: "الصراع الدائر في ليبيا معقد، وهو مرتبط بإرث أربعة عقود من حكم معمّر القذَافي الوحشي الدكتاتوري الذي لم يترك حتى ما يشبه مؤسسات حكومية عاملة، وقد جعل من الليبيين أعداءً لبعضهم البعض".
وتابع: "المسألة أيضًا لها ارتباط بانعدام سيادة القانون وضعف الحوكمة الذي سمح بتحريف وإلغاء العملية الديمقراطية التي بدأت بعد ثورة 2011، الأمر أيضًا يتعلّق بسلطات إقليمية تعمل بالوكالة بشكل علنيّ وسريّ للتدخّل في شؤون ليبيا لضمانها، حين يهدأ الغبار، كحليف غنيّ بالنفط يقع على شواطئ المتوسط".
بورتر خاطب جوركا بالقول: "مخططك الذي يستند على فكرة التقسيم العثماني لليبيا إلى ثلاث ولايات (تريبوليتانيا) طرابلس الكبرى وهي في الغرب، و(سيرنايكا) برقة وهي في الشرق، وفزان وهي في الجنوب نعرف أنه عَمِلَ من قبل".
وواصل قائلًا – كما نقل عنه الكاتب عبد الحفيظ غويل: " لنراجع القليل من التاريخ.. في البداية كان الغزو العثماني عام 1517 وتكوين برقة التي تقع اليوم شرق ليبيا، ثمّ بعدها بـ 34 سنة أخرى تمّ الاستيلاء على طرابلس الكبرى، وهي المنطقة القريبة من تونس، ثمّ غزا العثمانيون فزان، جنوبًا في الصحراء الليبية الكبرى التي هي في مجملها فارغة، حصل ذلك بعد 300 عام، هذا يوضح حقيقة أن إسطنبول فقدت السيطرة على طرابلس لأكثر من قرن من الزمان في السنوات الفاصلة. في أوقات لم تكن سعيدة ولا سَلِسَة".
وأكمل: "لكن كيف كانت تعمل هذه الولايات العثمانية؟ في البداية، كان وجود الحدود بين المناطق يخدم في المقام الأول تحصيل الضرائب الواجب دفعها لإسطنبول، وليست لأجل الحوكمة التي تدعو الحاجة إليها اليوم.. الناس كانوا يتنقلون، هنا وهناك، اُسرٌ ومصالحٌ تمتدّ في مناطق مختلفة. إنفاذ القانون، وكما تدعو الحاجــة وقتها، اقتصر على المستوى المحلي، ولكن كل ذلك كان قبل النفط - الذي لم يُكتشف في ليبيا إلاّ عام 1957، فلو أنَّ النفط تمَّ اكتشافه في ليبيا خلال الحقبة العثمانية، ما كانت إسطنبول لتقوم بالتقسيم على النحو الذي فعلت؟ ونحن أيضًا سنرسم حدودًا مختلفة على مناديل مختلفة ساعتها؟".
ومضى يقول: "لكن من أجل الحجة، دعنا نفترض أننا سنقسّم ليبيا وفقًا لحدودٍ عمرها 600 عام بغض النظر عما إذا كان الليبيون يرغبون في ذلك أو لا.. النفط شريان الحياة في ليبيا، فهو يسدّ كل الحاجات، من الغذاء إلى المياه إلى رواتب القطاع العام. وبدون عائدات النفط لا توجد ليبيا".
تقسيم ليبيا.. مسألة وقت
الدكتور سمير غطاس رئيس منتدي "الشرق الأوسط" للدراسات الاستراتيجية قال إنَّ مشروع التقسيم الأمريكي في الشرق الأوسط وليس في ليبيا في فقط هو مشروع قديم جديد، معتبرًا أنَّ التقسيم في ليبيا مسألة وقت، مذكِّرًا أنَّ ليبيا كانت تحت الوصاية ومقسمة إلى ثلاثة أقاليم بعد الاحتلال الإيطالي.
وأضاف لـ"مصر العربية": "بعد قتل القذافي ومشروع التخلص منه كان الأصعب هو إيجاد بديل له، يكون وطنيًّا ديمقراطيًّا ليبيًّا وليس من أمريكا أو الناتو، والحلف هو الذي تخلص منه ولعب الفرنسيون دورًا كبيرًا في ذلك".
وتابع: "القذافي كان يحكم بربط بين القبائل والتشكيلات الاجتماعية، وبغيابه عادت ليبيا مرة أخرى إلى التركيبة الديموغرافية التي يغلب عليها القبائل".
وأشار إلى أنَّ الوضع الراهن يشهد تنازعًا بين حكومتين والجيش وعدة ميليشيات، متحدثًا عن دور تلعب أطراف إقليمية ودولية تحول دون تأسيس دولة ليبية قوية، منوِّهًا بأنَّ الولايات المتحدة باتت تعلن عن وجود عسكري لها وكذا فعلت إيطاليا وبريطانيا وفرنسا.
تقسيم ليبيا رأى غطاس أنَّه قائم بالفعل عمليًّا، معتبرًا أنَّ السلطة هي للعشائر والقبائل، وما يمثل أمر شديد الخطورة على أمن الدولة.
غطاس أقرَّ بأنَّ هناك مشروعًا للتقسيم، وقال: "العراق مقسمة إلى ثلاث دول، سنية وشيعية وكردية، وسوريا على طريق التقسيم إلى خمس دويلات، وليبيا مرشحة لأن تكون ثلاثة".
الحديث عن تقسيم دول عربية إلى دويلات صغيرة ليس جديدًا، بل تعلَّق أكثر بمصطلح أمريكي "الشرق الأوسط الجديد"، الذي تسوِّق له واشنطن منذ 2006، حيث أطلقت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة جونداليزا رايس وهي في زيارةٍ إلى تل أبيب، وذلك تزامنًا مع الحصار الإسرائيلي للبنان.
محللون اعتبروا أنَّ هذا الإعلان كان بمثابة تأكيد لـ"خارطة الطريق العسكرية" في الشرق الأوسط بالاتفاق بين الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، وذلك بهدف خلق حالة من عدم الاستقرار والفوضى تمتد من لبنان وفلسطين وسوريا إلى العراق والخليج وإيران، وحتى أفغانستان.
في العام نفسه، عرض الخبير العسكري الأمريكي رالف بيترس، حدودًا للشرق الأوسط رأى أنَّها عادلة في مقالة بعنوان " الحدود الدموية.. كيف يمكن رؤية الشرق الأوسط بشكل أفضل"، نُشرت في العدد السادس من المجلة العسكرية الأمريكية، تضمَّنت خريطة جديدة للمنطقة مفصلة على أساس عرقي ومذهبي، موضحة التقسيم.
هذا المصطلح عكس جانبين، الأول أن الوقت حان لإجراء عملية تغيير شاملة لمنطقة الشرق الأوسط، والثاني أنَّ رسم خارطة الشرق الأوسط من جديد سيكون مفتاحًا لتحقيق ما يعتقد أنَّه استقرار سياسي واجتماعي يضمن المصالح الاقتصادية الأمريكية في المنطقة وفي صدارتها النفط.
3 سنوات على التقسيم
الباحث المتخصص في الشأن الليبي كامل عبد الله قال إنَّ ليبيا مقسمة في الأساس منذ ثلاث سنوات، مقلِّلًا من جدوى الخريطة الأمريكية كونها صدرت من مسؤول أمريكي وصفه بـ"غير الرسمي".
وأضاف – لـ"مصر العربية": "ما ورد في الخريطة الأمريكية عن التقسيم في ليبيا هو أمر صعب على أرض الواقع في ظل تشابك العلاقات داخل المجتمع الليبي".
دعوة السراج للتدخل الدولي اعتبرها عبد الله إضعافًا من رئيس حكومة الوفاق لنفسه، مشيرًا إلى أنَّه يحاول اللعب على ورقة قوة له لا سيَّما أنَّه يحظى باعتراف دولي في مواجهة خصومه في شرق ليبيا.
ليبيا يرى "الباحث" أنَّها متجهة صوب جولة جديدة من الحرب الأهلية، محذِّرًا من خطورة لعب أطراف إقليمية ودولية على مصالحها في ليبيا على حساب المصلحة الوطنية.
المخطط قائم.. والخارج يتدخل
عن مخطَّط التقسيم عمومًا، قال الدكتور هاني رسلان رئيس وحدة الدراسات بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية إنَّ هذه الفكرة ليست جديدة، لافتًا إلى أنَّ الوقائع الجارية حاليًّا في منطقة الشرق الأوسط تؤكِّد وجود مخطط للتقسيم.
وأضاف لـ"مصر العربية": "هناك أوضاع معقدة في الشرق الأوسط والدلائل تشير إلى عدم التوصُّل إلى تسوية سياسية في كل دولة وتوافق وطني ينهي الصراعات لكن كل ذلك ليس بسبب الأوضاع الداخلية ولكن بتدخلات خارجية".
رسلان أشار إلى أنَّ مثل هذه الأوضاع تؤدي إلى تغذية الحروب والصراعات، ما يفرض حالةً من الإرهاق الشامل في هذه الدول، وهو ما يستتبعه رغبة في التقسيم.
الخريطة الأمريكية عن تقسيم ليبيا التي نشرتها الصحيفة رأى رسلان أنَّها واقعية إلى حد بعيد في ظل الأزمة الليبية الحادة هناك، بل تحدَّث أيضًا عن قرب سوريا من التقسيم هي الأخرى إلى تقسيم قائم على ما أسماها "الفيدرالية الفضفاضة"، تحكم كل منطقة فيها نفسها ذاتيًّا.