في اجتماعه في المكتب البيضوي بوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أخيراً، لم يكرر دونالد ترامب دعوة وزير خارجيته إلى تنحية عائلة الأسد، بل اكتفى بدعوة موسكو إلى كبح جماح الأسد وإيران عن ممارسة القتل المروّع.
قبل ذلك، كان التراجع عن خطاب الإدارة الحاد إزاء نظام بشار قد بدأ فعلياً بنصف انخراط أميركي في تفاهمات آستانة التي رعتها روسيا، وتطمح إلى جعلها مساراً بديلاً عن مسار جنيف، أو إلى جعلها المطبخ الفعلي لجنيف مع الفوز بإقصاء قوى دولية وإقليمية تعارض السياسة الروسية.
إذاً، كما في ملفات أخرى، ظهر ترامب كأنه بدأ من الحد الأقصى بتوجيه ضربة يتيمة لأحد مطارات الأسد، وهذا يذكّر بتصريحاته النارية تجاه الصين والمكسيك، وتجاه قضايا الهجرة، ثم تراجعه بحكم الواقعية أو بحكم وقوف المؤسسات الأميركية ضد سياسته. حتى التصعيد مع كوريا الشمالية له حسابات دقيقة جداً، وله أبعاد إقليمية خطيرة تتعلق بإمكانية استخدام الأسلحة النووية في نوبة غضب كورية غير مستبعدة تماماً، ما يفرمل مزاجية ترامب.
الرئيس الأميركي، الذي يعيش على وقع الإخفاقات والفضائح، قد يجد في الملف السوري ملاذاً لتحقيق بعض الشعبية المفقودة، على غرار ما أدت إليه الضربة اليتيمة من ارتفاع في شعبيته آنذاك. لكن هذا لا يعني تكرار الضربة. ففي سورية هناك فرصة أهم يتلهف إليها، وهي القضاء على داعش سريعاً، ليقدّم نفسه بطلاً في الملف الذي استهلك وقتاً طويلاً من إدارة سلفه من دون تحقيق إنجاز باهر.
في وضع مستقر لرئاسته، قد يسعى ترامب بعد التخلص من داعش إلى تقديم نفسه الرجل الذي أتى بالسلام إلى سورية، بصرف النظر عن نوع التسوية وعدالتها. هذا طموح يوازي في وعورته طموحه لأن يقيم السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مع الأولوية لسخونة القضية السورية حالياً. إلا أن الفضائح، التي كان آخرها إقالة مدير أف بي آي، تنذر بالتفاقم، ومن المحتمل جداً أن يواجه ترامب بعد أشهر خريفاً ساخناً جداً، إذا تواصل الكشف عن خبايا ملف الاتصالات مع الكرملين.
ولأن الملف السوري قابل للتحرك ضمنه بمرونة أكثر من سواه، من المحتمل جداً أن يزيد ترامب من حجم التدخل الأميركي المباشر، هذه المرة لمواجهة الخطر الإيراني، مثلما يُحتمل أن يترافق ذلك مع حرب إسرائيلية ضد ميليشيات حزب الله في جنوب لبنان. ذلك قد يكون مناسباً لافتعال مواجهة خارجية ضخمة، يحتاج إليها في حال زادت الضغوط الداخلية عليه، ويتوق إليها العديد من شخصيات الحزب الجمهوري التي يحتاج دعمها حينذاك.
لن يكون ترامب في هذه الحالة مرتاحاً ليصعّد من التفاهم مع موسكو في الملف السوري، وغالب الظن أنه سيكون مضطراً لإبعاد شبهة التقارب معها من خلاله، لا سيما أن الملف الأوكراني لم يعد قابلاً لمزيد من الكباش السياسي، ولأن المواجهة المباشرة فيه تستفز موسكو أكثر من مواجهتها في سورية. وحتى في الملف السوري، لن تنزلق موسكو إلى مواجهة مباشرة، وإنما ستكون المواجهة بالوكالة، وستبقى مفتوحة على احتمالات استمرار القتال واستنزاف أطراف المواجهة، مع أرجحية تأثير ذلك على موسكو وطهران المنهكتين اقتصادياً في الأصل.
تدخل من هذا القبيل لن يعبّر عن استراتيجية أميركية جديدة. ترامب نفسه يمثّل على نحو ما الانعزالية الأميركية التي بدأها أوباما، وهذا ميل عام في الولايات المتحدة، كان الفشل في العراق آخر ما تغذى منه. مع ذلك، هذا التدخل الخارج عن السياق الأساسي قد يستقطب دعم جمهوريين متطرفين معادين لموسكو، وقد يستقطب أيضاً معسكر المعتدلين مثل جون ماكين، من دون أن ننسى مصالح اللوبيات الداعمة للجمهوريين والتي تميل تقليدياً إلى انخراط أكبر في المنطقة، وبالطبع سيجد فيه الديموقراطيون فرصتهم «فوق فضائح ترامب» لتكرار سيناريو العراق والهجوم على النزعة التدخلية، وربما تبرير الأوبامية بأثر رجعي.
لم تحدد إدارة ترامب لنفسها استراتيجية سورية، وهذا قد يكون عائداً لرغبة في الاحتفاظ بحرية التحرك من دون التزامات تقطعها أمام الأطراف الأخرى الفاعلة في الملف. قد لا يكون مستبعداً وفق هذا أن تفعل الشيء ونقيضه على التوالي، والتصرف على وقع الفضائح لن يكون ممنهجاً أكثر من اليوم، ولن يأخذ في الحسبان مصالح السوريين التي تتطلب ضغوطاً ممكنة وجادة بهدف وقف العنف وإحلال التغيير.
أما إذا قارنّا بين احتمالين لا ثالث لهما، التقارب الشديد مع موسكو والإبقاء على بشار، أو مواجهة غير محسوبة النتائج، فقد تكون هناك نسبة كبيرة من السوريين مع المواجهة، وقد تكون النسبة ذاتها أو أقل بقليل مع أي تصرف ترامبي «طائش» ما دام يتسبب في الأذى للنظام وحلفائه. على الضد من القيم الأخلاقية التي لا تصب في مصلحة ترامب، لن يكترث خصوم «النظام وداعميه» سوى بالسياسة الخارجية الأميركية، ولو أتت من دوافع تُعتبر لاأخلاقية لدى الجمهور الأميركي. يمكن القول أساساً بأن لا أحد يتوقع من هذه الإدارة أو سواها تدخلاً مبنياً على الدوافع الأخلاقية، إذ لا سوابق ناصعة مشابهة، ربما باستثناء التدخل في يوغوسلافيا السابقة.
قد يكون ضرورياً في كل مرة التأكيد على صعوبة التكهن بتصرفات ترامب، وإذا اعتمد سياسة الهروب إلى الأمام من المنفذ السوري فربما يضع المنطقة كلها في أتون صراع مرير. ثمة مفارقة كبيرة هنا، في أن يصبح داعمو حق السوريين في الحرية والتغيير مضطرين إلى الاصطفاف موضوعياً مع إدارة هي الأكثر يمينية وعنصرية، فضلاً عن أنها الأكثر معاداة للمؤسسات الديموقراطية الأميركية. ومع تدنٍّ مرتقب في شعبية ترامب، ستكتمل المفارقة بأنّ ما يبدو دعماً السوريين المتضررين من بشار يأتي من خيار غير شعبي في بلده.
تلك بشرى غير سارة سيستغلها مناصرو النظام عربياً، على غرار ما فعل نظراؤهم أيام الغزو الأميركي للعراق، ولو من دون غزو هذه المرة. في المقابل، هي بشرى غير سارة أيضاً للذين يأملون بسياسة تدخلية مبنية على أسس ديموقراطية، وتحظى بشعبية في بلدانها. من المؤسف أن الاستهانة بحقوق شعوب المنطقة لا تقدّم الحافز الأمثل لهذا التوافق.