ما كتبه غسان كنفاني قبل عقود في الروايات ظهر عيانًا وبات الحبر دمًا والأبطال بشرًا أسوياء.. فقد تخيَّل المؤلف الفلسطيني في إحدى رواياته رجالًا ماتوا اختناقًا تحت الشمس في خزان مياه في الصحراء، وشاهد عربة دجاج تتحول قبرًا للأحياء.. الآن وبعد عقود تحول ما دار في خَلَد كنفاني إلى حقيقة، والضحية سوريون، يطاردهم الموت أيضًا في الصحراء.
هناك على الحدود الجزائرية المغربية ومنذ نحو شهر، ثماني عائلات سورية عالقة، أوضاعهم الصحية سيئة، ونفسيتهم متدهورة والموت يلاحقهم صغارًا وكبارًا.. أعدادهم بالعشرات وبينهم أطفال ونساء وكبار سن، يمكثون في الصحراء على بعد 500 متر تقريبًا من مدينة فكيك المغربية.
في تلك الصحراء يكافح اللاجئون السوريون في جو متقلب، ورياح عاتية تهب فجأةً، في ظل انعدام أي نوع من الرعاية الصحية، ويعيشون في خيم مهترئة من الأقمشة والبطانيات، تنعدم فيها أدنى مقومات الحياة، ويغطي غبار الصحراء وجوههم وأجسادهم.
قد يموت هؤلاء الناس، وحين يموتون – كما تحكي التجارب السابقة – فلن يهتز لهم العالم ولن يقف لهم أحد دقائق صمت ولن تعقد قمة عربية أو إسلامية، فقط ستكون الجنازات وقد تخرج بيانات حزن، وهذا ليس بجديد، فالسوريون منذ ست سنوات يموتون "قوافل"، وشاهدوا كل صنوف الموت.
واقع السوريين "المر" مستمر منذ ست سنوات، والآن في العالم من يسأل ماذا لو كان هؤلاء غير هؤلاء، وهناك من يقول إنَّهم لو كانوا غير من هم لربما شنّت من أجلهم حروب عالمية.
بات للعالم المتحضر أن يسأل "كيف يموت الناس جوعًا في الصحراء وهم يكافحون بحثًا عن طوق نجاة"، أيامٌ تمر والعشرات عالقون في الصحراء، يرون الموت كما يرون أنفسهم.
شكوى اللاجئين.. كيف حالهم؟
الأسر السورية الثمانية اشتكت وضعها المذري، فأرسلوا تسجيلًا مصورًا من هناك، قالت فيه الطفلة حلا رعد حسب "الأناضول"، إنَّهم متعبون جدًا فلا الجزائر تقبل بعودتهم ولا المغرب تسمح بدخولهم.
يطارد الخوف هذه الأسر طوال الوقت فيطرد نومهم، فتذكر الطفلة "حلا" أنَّهم يعيشون حياة صحراوية، حارة نهارًا باردة ليلًا، حيث لا يجرؤ الكثير منهم على النوم خوفًا من الأفاعي والعقارب.
في هذا التسجيل أيضًا، تشكو سيدة - أيما شكوى - من حرارة الشمس وأشعتها والخطر الذي تمثله على الأطفال، مطالبة بإنقاذهم مما هم فيه قبل أن يلقوا حتفهم.
"أبو إياد" هو أحد هؤلاء المحاصرين قال - كما نقله عنه "تلفزيون العربية" - إنَّ معظمهم قصد المغرب للالتحاق بعائلاتهم المقيمة في المملكة منذ فترة، نافيًّا طردهم من الأراضي الجزائرية، إذ أكَّد أنَّهم خرجوا قاصدين المغرب للاستقرار مع ذويهم المتواجدين في المملكة وليس لجعلها معبرًا لأوروبا.
اتهامٌ.. من هنا وهناك
في أزمة هذه الأسر تتبادل الجزائر المغرب التهم بشأن المسؤولية عن وصولهم، إذ تقول الرباط إنَّ هؤلاء الأشخاص عبروا الأراضي الجزائرية لدخول للمغرب، بينما ترد الجزائر أنَّها سجَّلت في 19 أبريل الماضي محاولة السلطات المغربية طرد اللاجئين نحوها.
الداخلية المغربية أصدرت نهاية أبريل الماضي، بيانًا بخصوص اللاجئين العالقين، اتهمت فيه نظيرتها الجزائرية بـ"محاصرة مهاجرين سوريين في ظروف لا إنسانية" بالقرب من الحدود بين البلدين جنوبًا.
في المقابل، صرَّح وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي الجزائري رمطان لعمامرة: "هذا الموضوع إنساني حساس ودقيق ولا يجوز إطلاقًا المتاجرة بمأساة اللاجئين والأشقاء السوريين".
الخارجية الجزائرية كانت قد استدعت في 2014 سفير الرباط لديها، لإبلاغه رفضها ما وصفته بـ"مزاعم بطرد لاجئين سوريين نحو التراب المغربي"، وخلّف الموضوع آنذاك، أزمة دبلوماسية بين البلدين.
أزمة اللاجئين.. ما السبب؟
أزمة اللاجئين، وتحديدًا السوريين البالغ عددهم - كما تتحدث الإحصاءات الدولية - ستة ملايين لاجئ سوري حول العالم، فضلًا عن ملايين أخرين مهجرين داخل سوريا نفسها، وضع لها تفسير أمس أمير قطر تميم بن حمد، فقال إنَّها ليست ناجمة عن الفقر وضيق سبل العيش، وإنما هي نتاج الاضطهاد والقمع وغياب العدالة، وممارسات عنصرية تقوم بها ميليشيات طائفية خارجة عن سلطة القانون والشرعية، أو بسبب تدخلات قوى خارجية تحاول أن تفرض سيطرتها وتبسط نفوذها، وجرائم جماعات متطرفة.
وأضاف – وهو يتحدث خلال المؤتمر الدولي حول التنمية والاستقرار وقضايا اللاجئين بالدوحة – أنَّ هذه الممارسات والسياسات أدَّت إلى تزايد أعداد الباحثين عن مأوى والمشردين الذين طرقوا أبواب الدول المجاورة ثمَّ أوروبا بالملايين، وضاقت بهم الأرض وتقطعت بهم السبل، بل ويزداد وضعهم سوءًا بسبب عدم الالتزام بتنفيذ الاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
اتجاه سياسي وواقع إنساني
سياسيًّا، يربط محللون مواقف الدول تجاه اللاجئين من موقفها في الأساس من الأزمة السورية ودعمها من عدمه لنظام الرئيس بشار الأسد، ولعلّ آخر شاهد دبلوماسي في أزمة اللاجئين العالقين في الصحراء كانت برقية تهنئة بعثها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لبشار الأسد في أبريل الماضي، يهنئه فيها بالذكرى الـ71 للجلاء "الاستقلال" في سوريا.
ربط محللون هذا الموقف الجزائري بأزمة الأسر العالقة، وهو أمر تُنتقد عليه الجزائر، ومدعى ذلك هو ضرورة الفصل بين القضية السورية سياسيًّا أو إنسانيًّا، وهو ما يحتّم على السلطات الجزائرية وكذلك المغربية وكل سلطة عربية أن تقف بجانب المعاناة السورية.
أيضًا، الجزائر متهمة بأنَّها تعادي الربيع العربي، وتفسير ذاك القول هو أنَّها كانت مرشحة لاندلاع ثورة شعبية بها عام 2011، وهو ما جعلها تؤيد نظام الأسد باعتباره الوحيد الذي لم يسقط – إلى الآن – من الحكام الذين اندلعت ثورات الربيع ضدهم.
ليست معاناة هذه الأسر وحدها، فسوريون وسوريات كثيرون وكثيرات يكافحون الموت بأطواره المختلفة خلال سنوات الحرب الحالية، فبعدما هربوا من البراميل المتفجرة، ضاق بهم البحر حتى ماتوا غرقًا.
من تكتب له النجاة يقف عند بعض بوابات أوروبا، وهناك يتعرضون للطرد أحيانًا والإذلال في أحيان أخرى، فدول القارة منقسمة أصلًا على اللاجئين بين متقبلٍ ومنقسم أو مشترطٍ أن يكونوا غير مسلمين كي يدخلهم.
تقصير دولي وخلاف سياسي
الكاتب والباحث السوري ميسرة بكور أكَّدت أنَّ معاناة شديدة ووضعًا مأساويًّا يلاحق الأسر السورية العالقة بالصحراء، مشدِّدًا على أنَّ مثل هذه الأوضاع لا يمكن قبولها حالٍ من الأحوال.
وقال – لـ"مصر العربية" – إنَّ الخلاف السياسي بين الجزائر والمغرب ينعكس بالسلب على أزمة هؤلاء اللاجئين الذين وصفهم بـ"المستضعفين في الأرض"، مسميًّا الوضع استهتارًا بحياة المدنيين لا يتجاوز عددهم الـ100 شخص.
وأضاف: "إذا وفّرنا وقود سيارات المسؤولين ووسائل الإعلام الذين زاروا هذه المخيمات لربما كان بالإمكان توفير سكن مناسب لهؤلاء الناس سواء في المغرب أو الجزائر"، متسائلًا: "وزير الخارجية الجزائري قال إنَّه ليس من المقبول المتاجرة بمعاناة السوريين، ونحن نسأل الوزير عمَّا فعلوا من أجل هؤلاء اللاجئين".
ربط بكور الموقف الجزائري الداعم للأسد وأزمة اللاجئين العالقين، وقال: "الجزائر تدعم بشار الأسد بكل قوة، لأنَّها في الأساس معادية لثورات الربيع العربي وتدعم كل من يحارب هذه الثورات، وأحد أشكال هذا الدعم هو عدم استقبال اللاجئين والاستمرار في تزويد الأسد بالنفط والغاز رغم العقوبات الدولية المفروضة عليه".
وأشار إلى أنَّ اللاجئين أزمتهم أخلاقية إنسانية وليس فقط سياسية، معتبرًا أنَّ الجزائر تراهن رهانًا خاسرًا إذا لم تستقبل اللاجئين، حيث أنَّ الأسد لن يربح شيئًا من هذا الأمر، كون أي دولة أخرى من الممكن أن تستقبلهم".
المحلل السوري وضع تفسيرًا آخرًا لهذه الأزمة، يتمثَّل في أنَّها راجعة بالأساس إلى الخلاف بين الجزائر والمغرب، ما يعني أنَّها تلعب بورقة اللاجئين السوريين في هذا الإطار.
إقليميًّا، يرى بكور أنَّه لا دورًا ممكنًا للجامعة العربية لدعم قضية اللاجئين، وقال: "رئيس الجامعة العربية ليس مؤيدًا لثورات الربيع العربي".
الأمم المتحدة هي الأخرى عليها علامات استفهام بما يتعلق بموقفها وتحركها إزاء اللاجئين السوريين كما يقول بكور الذي أشار إلى أنَّها أعلنت عدم استطاعتها دخول مناطق اللاجئين كونها في حاجة إلى تصريح من الأسد.
واعتبر أنَّ الدور الأممي المقدم إلى الآن غير مكتمل، بل وصفها بـ"المقصِّرة" تجاه اللاجئين، وشكّك في تعاونها مع نظام الأسد، متحدثًا عن أنَّ موظفين بها هم عملاء لبشار، ما يعني أنَّها ليس بإمكانها تقديم مساعدات داخل سوريا.
أجندة مستبدين
السياسي السوري بشير علاو تحدَّث عن أزمة الأسر العالقة بالقول: "للأسف هذه أجندة المستبدين والحكام العرب الذين فرض عليهم شكل علاقاتهم بين بعضهم البعض".
وأضاف – لـ"مصر العربية" – أنَّ المجتمع العربي لا يؤدي أي دور لدعم اللاجئين السوريين، محمِّلًا هنا الجانب الأكبر من المسؤولية على دول الخليج، متابعًا: "هذه الدول ما زالت تسمّي العربي المقيم على أرضها بالأجنبي".
هذه السياسة الخليجية يقول "علاو" إنَّها وُضعت في الغرب لزيادة انقسام المجتمع العربي، داعيًّا في هذا الإطار جامعة الدول العربية للعمل على وحدة الصف، وبناء الكوادر معتمدةً على الإنسان العربي والمحافظة عليهم.
علاو – وهو مؤسس حزب البناء والعدالة الوطني - اعتبر أنَّ العمل الإغاثي هو جديد داخل المجتمعات العربية، داعيًّا دول الخليج إلى التحلي بمسؤولياتها في دعم اللاجئين على النحو المطلوب.