أولى الحكومات في عهد الرئيس الفرنسي الجديد، إيمانويل ماكرون، لن تتولى مهامها لأكثر من شهر واحد، نظرا لوجود ما يشبه التقليد الجمهوري في البلاد، يقضي باستقالة الحكومة عقب كلّ انتخابات برلمانية.
تشكيلة "مؤقتة" لن تكون مهامها إدارة شؤون البلاد، وإنما قيادة حملة حزب ماكرون في الاقتراع التشريعي المقرر في 11 و18 يونيو المقبل، ورسم ملامح المشروع المستقبلي للولاية، والأهم تجنّب أي هفوة قد تكلّف الرئيس خسارة أغلبية برلمانية قادرة لوحدها على منحه السلطة الفعلية.
** في خط المواجهة للمعركة البرلمانية
يرى مراقبون أن المهمة الأساسية لحكومة ماكرون في الأسابيع المقبلة، هي قيادة وتوجيه حملة الانتخابات التشريعية المقبلة.
معركة مصيرية بالنسبة للرئيس الفرنسي الذي يدرك جيدا أن عدم حصوله على أغلبية مقاعد الجمعية الوطنية، الغرفة السفلى للبرلمان الفرنسي (289 من أصل 577 مقعد)، سيجعل منه رئيسا فاقدا لصلاحيات تشريعية تمكّنه من تفعيل برنامجه الانتخابي.
ومن هنا، فإنّ الحكومة الجديدة بأعضائها الـ 22، والقادمين من مختلف التيارات السياسية في البلاد (يمين ـ يسار ـ وسط)، ومن منظمات المجتمع المدني، مع ما ترجمته من احترام لمبدأ المساواة بين الرجال والنساء (11 امرأة)، إنما هي تشكيلة "ترويجية" مكلّفة بمهمة استقطاب نواب اليمين واليسار، لتسديد ضربة قاضية للتيارين.
حكومة "تشاركية"، كما يصفها الإعلام الفرنسي، جمعت شخصيات شابّة بأخرى محنّكة، تماما كما أراد ماكرون، غير أن المطّلعين على الشأن الفرنسي يدركون جيدا أن ذاك التوازن الظاهري إنما يخفي سهاما مدمّرة يرنو ماكرون استخدامها لتأجيج معركة رد الاعتبار التي يخوضها اليمين واليسار.
نيكولا روسيلي، المؤرخ وأستاذ العلوم السياسية بفرنسا، قال معقبا عن الموضوع، إن "الحكومة الأولى غالبا ما تخضع لمنطق فرق التدخّل السريع أو ما يعرف بـ 'الكوماندوز'، لضبط ايقاع المرحلة المقبلة، وتحديدا ما قبل الانتخابات البرلمانية ».
وأضاف أن "اختيار اليميني إدوارد فيليب على رأس الحكومة يخضع لهذا المنطق، ويرمي إلى استقطاب اليمين المعتدل إلى صفوف ماكرون"، ما يعني أن المرحلة الفاصلة من مايو أيار حتى يونيو حزيران، ستكون حاسمة، والوزراء هم من سيقود الحملة وجولات الاجتماعات الشعبية".
المختص في القانون الفرنسي العام، ميشيل لاسكومب، وهو أيضا أستاذ قانون دستوري بكلية العلوم السياسية بمدينة "ليل" الفرنسية، قال، من جانبه، لوسائل إعلام محلية، إن الحزب الخاسر في الرئاسية هو من يقوم بالحملة لتدارك هزيمته في التشريعية ».
وأضاف مستدركا، في تصريحات إعلامية: "غير أن ما يحدث، حاليا، هو العكس تماما، ما ينبئ بإقتراع غير مسبوق"، خصوصا وأن اليمين واليسار في انتظار هذا الاستحقاق بفارغ الصبر، ولكن أيضا بروح انتقامية".
** رسم ملامح المشروع المستقبلي لولاية ماكرون
وزراء ماكرون أمامهم بضعة أسابيع فقط لإظهار التوجهات المستقبلية. وبما أنه غالبا ما يفوز الحزب المتوّج في الرئاسية بالانتخابات البرلمانية أيضا، فإن حكومة ماكرون الجديدة تضع نفسها ضمن هذا الطرح، وستبدأ بإعداد النصوص القانونية للدورة البرلمانية الاستثنائية في يوليو تموز المقبل.
وأول نص قانوني لطالما وعد ماكرون طوال حملته الرئاسية بعرضه على مجلس وزرائه «قبل الانتخابات التشريعية»، يشمل مشروع قانون يربط بين القيم الاخلاقية والحياة السياسية، وذلك عبر «حظر توظيف البرلمانيين لأفراد من عائلاتهم».
مشروع يستبطن اشارة خفية إلى فضائح «الوظائف الوهمية» التي طالت كلا من اليميني فرانسوا فيون واليمينية المتطرفة مارين لوبان، كما يرمي من ورائه الرئيس الجديد إلى إعادة الاعتبار لأخلاقيات الحياة السياسية، بما يؤسس لصورته كسياسي فوق مستوى الشبهات من جهة، وليثبت للفرنسيين أنه في حال حصوله على الأغلبية البرلمانية، فإنه سيجسد جميع وعوده.
الخبراء يرون أيضا أن توزيع المناصب في الفريق الحكومي الجديد يرسم بدوره ملامح المشروع المستقبلي لولاية ماكرون الأولى، ويجسد شعار التجديد السياسي الذي خاض الأخير حملته على أساسه، ولعل اختيار 5 وزراء من اليمين والوسط، و5 آخرين من اليسار، يعد خير دليل ذلك.
غير أن المصادر نفسها حذرت من أن اعتماد ماكرون على وزرائه لتعزيز حظوظه بالهيمنة على الجمعية الوطنية، ينبغي أن يكون مدروسا، خشية الوقوع في مطبات قد تأتي بنتائج عكسية، تماما مثلما حدث في 2007.
ففي ذلك العام، تطرق وزير الاقتصاد حينها، جان لويس بورلو، إلى الضريبة على القيمة المضافة الاجتماعية، في فخ استدرجه إليه لوران فابيوس عشية الدور الأول للانتخابات التشريعية، ما كلف اليمين الفرنسي الصاعد إلى الحكم في ذلك الوقت، أكثر من 50 مقعدا في البرلمان.
** إدارة المفاجآت
تقليد جمهوري آخر دأبت على تطبيقه الحكومة الفرنسية، وهو أنها لا تقدم مشروعها إلا عقب الانتخابات البرلمانية، غير أنها تحتفظ بإمكانية إصدار مراسيم، لكن بخصوص قوانين مصادق عليها سلفا.
ومع أن هامش تحركه يظل ضيقا قبل التشريعية، إلا أنه بوسع ماكرون الاستفادة من سلطته التنظيمية وحذقه للإدارة، للعب على وتر «الإصلاحات الرمزية» عبر المراسيم المتضمنة لقرارات رمزية تؤشر لبداية ولايته، وإن يظل نطاق المراسيم الرئاسية الفرنسية محدود.
استراتيجية اعتمدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي كثف، منذ توليه الحكم، من إصدار مراسيم تنفيذية أمنت له سلطة تشريعية تقديرية.
أما فيما يتعلق بباقي شؤون البلاد، فإن الحكومة الجديدة ستضطلع بمهمة تصريف الأعمال الجارية، لكن يتحتم عليها أيضا أن تكون جاهزة لمواجهة الحالات الطارئة، مثل الهجمات الإرهابية أو الكوارث الطبيعية، ما يعني أن جدول الفريق الحكومي الجديد قد يكون حافلا، وإن كانت مهامه لا تتعدى الشهر الواحد.