بداية القصة أن بني إسرائيل وجدوا قتيلا بين أظهرهم (قيل: اسمه عاميل) واشتبه أمر قاتله عليهم، ووقع بينهم خلاف، فقالوا: نقتتل ورسول الله بين أظهرنا، فأتوا موسى عليه السلام، وسألوه أن يدعو الله ليبين لهم حقيقة القاتل، فسأل موسى عليه السلام ربه، فأمرهم بذبح بقرة.
فلما سمعوا ذلك من موسى، وهو في الظاهر ليس جوابا عن سؤالهم ولا بيانا لما احتكموا فيه إليه، قالوا: "أتتخذنا هزوًا"، فقال موسى معرضا بهم: "أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين".
وأجاب موسى عليه السلام بقوله "أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين" لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل، فاستعاذ منه عليه السلام.
وظاهر أن اتهامهم رسولهم بالهزء منهم يدل على فساد اعتقادهم في الرسل، إذ لا يصح إيمان من قال لنبي قد ظهرت معجزته، وقال له: إن الله يأمرك بكذا: أتتخذنا هزوا، فالشك في جدية الرسول طريق إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.
وفي اختيار البقرة علة غاية في الروعة:
فالبقرة من جنس العجل الذي عبده بنو إسرائيل فأراد الله تعالى أن يهون عندهم ما كانوا يرونه من تعظيم العجل، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته. وهذه العلة ساقها الماوردي في معرض حديثه عن الآية.
وفي الآيات تنكشف السمات الرئيسية لطبيعة إسرائيل، مثل: ضعف إيمانهم بالغيب، وقلة الثقة في رسل الله، والتلكؤ في الاستجابة للتكاليف، والمراوغة للهروب من الفعل الواجب.
لقد قال لهم نبيهم "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" أي بقرة، وقد كان في وسعهم وهم في سعة من الأمر أن يمدوا أيديهم إلى أية بقرة فيذبحوها، ولكن طبيعة التلكؤ والالتواء تدركهم، فإذا هم يسألون: قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟.
ويبدو أن السؤال يعكس شكا لا زال قائما في نفوسهم، فقال موسى "إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك" ثم يعقب بنصيحة حازمة "فافعلوا ما تؤمرون".
ولقد كان في هذا الكفاية، لكنهم راحوا يسألون عن لونها، وعن تحديد أكثر لها لأن البقر تشابه عليهم، فلما أتاهم بوصف لبقرة معينة قالوا "الآن جئت بالحق"
آلآن؟! وكأن ما كان من كل ما مضى ليس حقا، وكأنهم لم يستيقنوا أن ما جاءهم به هو الحق إلا هذه اللحظة، فذبحوها.
ويعلق الله تعالى على فعلهم فيقول "وما كادوا يفعلون"، وهذا شأن المستهترين الذين يتحايلون للهروب من تكاليف الدين والإيمان.
فلما ذبحوها أمرهم الله تعالى بضرب القتيل بجزء من البقرة المذبوحة، قيل إنه لسانها، فأحيا الله القتيل أمام أعينهم، وأخبرهم عن اسم قاتله، ثم مات.
وكانت تلك الحادثة آية من آيات الله يريهم الله إياها، ويبين لهم أنه كما أحيا هذا الميت فكذلك يحيي الله سبحانه الموتى بقدرته.