ورد ذكر الصدقة والحث عليها والإشارة إلى بعض آدابها في الجزء الثالث من سورة البقرة في ثلاث وعشرين آية متتاليات من آية 261 وحتى آية 283.
والبداية كانت بالترغيب في الصدقة والحث عليها في قوله تعالى "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء"، وذلك لما يعلمه الله تعالى من حب الإنسان زيادة المال ومضاعفة مكاسبه.
آداب المتصدق تجاه المتصدق عليه
ثم ينتقل الكلام إلى الآداب التي يجب مراعاتها من جانب المتصدق مع الإنسان الذي سيمنحه صدقته، فيؤكد المولى عز وجل أن احترام الإنسان كقيمة هو أهم من إعطائه لقمة.
فيقول سبحانه بالإشارة أولا "الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
ثم يتبع الإشارة بالواضح من العبارة فيقول: "قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم".
ثم يقرر الحقيقة الكبرى ببطلان الصدقة المصحوبة بالمن والأذى، فإطعامٌ مع كسر نفس وإذلال لا يكون أبدا مقبولا عند الله تعالى، فيقول سبحانه "يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى".
آداب المتصدق تجاه الله تعالى
ثم تنتقل الآيات للحديث حول أهمية أن تكون الصدقة خالصة لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته وثوابه، فإن كانت رياء وابتغاء ثناءٍ حسنٍ من أهل الدنيا فذلك بالقطع يحرم الإنسان الأجر الموعود والجزاء المضاعف على الصدقة عند الله تعالى.
ويجعل الله تعالى المن والأذى سواء بسواء مع الرياء، فيقول "يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر".
ويشبه سبحانه فاعل هذا بتشبيهين غاية في البيان:
الأول كمثل رجل طلب الإنبات من ظهر حجر صلب أملس أصابه الماء فتركه صلدا.
والثاني كمثل رجل له جنة مثمرة من كل الثمرات أصابتها نار فأحرقتها فلم تبق له شيئا.
وكذلك المن والأذى وكذلك الرياء يفعلان بالصدقات.
ثم ينتقل السياق لبيان نوعية المتصدق به، ويبين أنه ينبغي للإنسان أن يجود بما يرتضيه لنفسه من الخير، ولا يقصد الخبيث من ماله الذي لا يرضى أن يأخذه لنفسه إلا على مذلة وهوان فيتصدق به، ويشير بقوله "ومما أخرجنا لكم من الأرض" إلى أن هذا الرزق إنما هو محض عطاء من الله تعالى، فيقول سبحانه "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد".
والعجيب أن تجد آخر آية في الجزء الثالث (آية 91 من سورة آل عمران) تنتهي بتقرير هذه القاعدة حيث يقول الله تعالى فيها "لن تنالوا البر حتى تنقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم".
ثم يحذرنا المولى سبحانه من وسوسة الشيطان بالإمساك عن فعل الخير وبذل الصدقات مخوفا إيانا من الفقر، حتى يعود الإنسان في صدقته بعد عزمه خشية من المستقبل ومن الفقر المحتمل إن هو أقدم على بذل ماله فيقول سبحانه "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء"، والفحشاء هنا الإمساك عن الصدقة خشية الفقر، فهذا يطعن في إيمان المسلم بالله تعالى من الأساس، وكفى بهذه فحشاء.
ثم ينتقل السياق إلى أدب آخر من آداب الصدقة وهو إيتاؤها خفية، فذلك أوفق للمتصدق وأدعى لإخلاصه وأستر للمتصدق عليه، ومع ذلك فإن اقتضى الحال إيتاءها جهرا فنعما هي ما دامت مجمّلة بآدابها التي شرطها الله تعالى للقبول عنده، فيقول سبحانه "إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفراء فهو خير لكم".
أصناف من الناس أعزة رغم الفقر
ويشير المولى سبحانه وتعالى إلى نوع من البشر كرامته عنده أهم من لقمته، "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا".
فلا يسألون الناس ولا يطلبون عطاء مهما عانوا حتى ليظن الجاهل أنهم أغنياء بسبب تعففهم، بل ربما طلب منهم الجاهل صدقة أو عطاء، بل ربما ذمهم على تركهم مساعدته وهم يقدرون في نظره.
وهذا لا يكون إلا من جاهل، أما المؤمن الحق فحصيف سديد النظر، يستطيع أن يميز ذا الحاجة وإن التحف بالعفة والكرامة فيعطيهم دونما منّ ولا أذى ولا إحراج ولا فضح.
وهؤلاء الفقراء المتعففون ربما يسألون الناس قرضا حسنا إلى حين، ولذلك ينطلق السياق ليحذر من استغلال حاجة الناس وإقراضهم بالربا.
ثم يبين فضيلة الإقراض، وحكم القرض وآدابه في آية هي أطول آية في القرآن.
ثم يبين مشروعية الرهن لضمان الحقوق، مع تقديم الأمانة وحسن الظن والثقة بين المسلمين على الضمانات.