إيكونوميست: بعد نصف قرن على النكسة.. هل تذوب القضية؟

مازالت محاولات تذويب القضية الفلسطينية جارية، في إطار توسعة نطاق ما يسمونه بالسلام الدافئ، لدفن جذور الصراع العربي الصهيوني، وحرف بوصلة الصراع الإقليمي، لتوجيهها إلى الاتجاه الخطأ بعيدا عن الكيان الصهيوني، المستهدف قبوله ليس فقط كأمر واقع في إطار المنطقة، ولكن كحليف رئيسي للقوى الرئيسية في المنطقة.

 

نشرت مجلة "إيكونوميست" تقريرا بمناسبة مرور خمسين عاما على نكسة ١٩٦٧، تستعرض فيه خمسون عاما من الاحتلال، صار فيهم الكيان الصهيوني أكثرة قوة وثراء، غير أنه لم يستطع التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين ولا مع مكوناته المجتمعية، بحسب ما ذكر معد التقرير "أنتون لا جارديا" نائب مدير تحرير الشئون الخارجية بالمجلة، والمتخصص في شئون أفريقيا والشرق الأوسط. غير أن التقرير يعمل ـ على نحو خبيث ـ على الوصول بالقارئ إلى نتيجة مفادها، أن مرور خمسين عاما على آخر حرب نظامية بين الكيان الصهيوني والجيوش العربية، أسفر عن ذوبان القضية تدريجيا، مع انصراف العرب عن القضية التي كانت قضيتهم الأولى، وما يزعمه من تقارب بين العرب واليهود داخل فلسطين المحتلة!

 

ويقول لا جارديا "في البداية دمروا القوات الجوية المصرية على الأرض وأسقطوا طائرات الأردن والعراق وسوريا.

 

كان ذلك يوم الاثنين، ثم حطموا يوم الثلاثاء دفاعات مصر الضخمة في سيناء، بعد ذلك، استولوا يوم الأربعاء على القدس القديمة وصلوا، ثم وصلوا إلى قناة السويس، كان ذلك يوم الخميس، وصعدوا مرتفعات الجولان، كان ذلك يوم الجمعة. ثم أخذوا القمم المطلة على سهل دمشق، وفي المساء أعلن العالم وقف إطلاق النار، كان ذلك يوم السبت، وفي اليوم السابع استراح جنود إسرائيل."!!

 

في خلال ستة أيام فقط من القتال في يونيو 1967، أنشأت إسرائيل شرقا جديدا، كان ذلك بسرعة، وفجأة حققت انتصارها على الجيوش العربية المحاصرة التي رأى البعض أنها مؤيدة من الله، وبدلا من أن يواجه اليهود محرقة أخرى مثلما توقع الكثيرون، أصبحت إسرائيل أعظم قوة في المنطقة.

وقال ناعومي شيمر لنشيده "القدس الذهب"، أبياتا جديدة بعد الحرب: "لقد عدنا إلى الصهاريج / إلى السوق / البوق يدعو من فوق جبل الهيكل في المدينة القديمة."

 

رغم أن هذه سنة الاحتفالات الكبرى في إسرائيل: 120 عاما منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل؛ ومائة سنة منذ وعد بلفور اليهود بوطن قومي؛ و 70 عاما منذ أن اقترحت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية وعربية.

 

بيد ان لا جارديا يتوقع أن يكون الاحتفال بالذكرى الخمسين لحرب الأيام الستة الاكثر كثافة.

 

ويبحث التقرير الخاص فيما يسميه تراث ذلك الصراع، باعتبار أن الأراضي التي استولت عليها إسرائيل هي القضية المحددة لسياساتها وعلاقاتها مع العالم؛ كما أنها أيضا في صميم أحلام الاستقلال الفلسطينية.

ويرى أن الحرب التي استمرت ستة أيام آخر انتصار عسكري للكيان الصهيوني، بدأ بعدها الانتقال من الحروب الوجودية ضد الدول العربية ـ التي فاز بها دائما ـ إلى شن حملات ضد الميليشيات غير الحكومية التي لم تتمكن من القضاء عليها أبدا. ويوضح التقرير أن خطر الغزو اختفى عبر حدود الدولة العبرية، لكن العنف داخلها لا يزال متواصلا.

ويبدأ التقرير باستعراض تطور الصراع منذ يونيو قبل خمسين عاما، ملمحا إلى تطور في العقلية لصهيونية والعربية، تبشر من وجهة نظره إلى تقارب بين المجتمعين، على الرغم من فشل عملية السلام بين الرسميين!

 

ويقول أن الأسلحة الغربية فازت في 1967 بشكل حاسم على السوفيتية. ومع انحياز أمريكا الشديد لإسرائيل، واكبت انقسامات الحرب الباردة، الصراع العربي الإسرائيلي. وعندما تحول شارل ديجول الجانبين إلى صف العرب فعليا في عام 1968، بحظر مبيعات الأسلحة لإسرائيل (ولا سيما طائرات ميراج)، وضع دون قصد الأساس لازدهار صناعة التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل. وفي هذه الأيام، فرنسا هي التي تشتري طائرات بدون طيار من إسرائيل.

وتحول ما كان بمثابة ملجأ محاصر لليهود، إلى إمبراطورية صغيرة، تحكم الملايين من الفلسطينيين. لقد كانت، من نواح كثيرة، حربا مرتجلة، لكنها دامت. وأيقظت الحرب النزعة الوحدوية الفلسطينية والحماس الإسرائيلي، وأضافت قوة الدين المستعصية لقوى القومية. صحيح أن الجدار الذي قسم القدس قد زال، ولكن إسرائيل أقامت العديد من الحواجز التي تدمر المجتمع الفلسطيني. واكتسب الإسرائيليون غنى، مما يجعل بؤس الفلسطينيين أكثر إثارة للقلق. وأدى الانتصار ـ في رأي كاتب التقرير ـ إلى انقسام الشعب الإسرائيلي وفظاظة ديمقراطيته.

 

عندما سمع ليفي اشكول، رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك، نبأ الاستيلاء على القدس، قال لزملائه في الحزب "لقد دفعنا مهرا جيدا، لكن لعروس لا نحبها. " فكانت كلماته أكثر حدة مما كان يتصور.

ويواصل لا جارديا قائلا أن الجنود الإسرائيليين القدامى مازالةا يروون قصصهم عن الحرب يوما بعد يوم. وكان روفن جال قائد فصيلة في لواء القدس، مكونة من جنود الاحتياط كانوا يقاتلون في المدينة القريبة من بيوتهم.

 

بعد معركة للسيطرة على مقر الأمم المتحدة في اليوم السابق، يذكر جال أنه تقدم في فجر السابع من يونيو نحو الخنادق الأردنية على تلة جبل أبو غنيم. واستولوا على الموقع من دون جهد يذكر. وبينما يستريح مع رجاله، سمع إشارة الراديو من موتا جور، قائد المظليين الذين دخلوا المدينة المسورة: " جبل الهيكل في أيدينا". فبكى كل من حوله من الجنود!!

بعد الحرب، كان الإسرائيليون "في حالة سكر" بنشوة الاستيلاء على ما يعتبرونه أراضي أسلافهم التوراتية. وكان يعتقد أنه بعد هذه الهزيمة سيكون على العرب السعي من أجل السلام.

ويتذكر جال أغنية من ذلك الوقت: "غدا، سوف يخلع الجنود زيهم العسكري / كل هذا سوف يأتي غدا، إن لم يكن اليوم / وإذا لم يكن غدا، سيكون اليوم التالي".

 

ولكن السلام لم يأت. وصار على كل جيل من الإسرائيليين أن يرتدوا الزي العسكري وأن يستعدوا للقتال. وأصبح جال كبير علماء النفس في الجيش وبعد ذلك مسؤول كبير في الأمن القومي. وقال "لم نكن نعرف ما سيحققه هذا الانتصار العسكري". "كانت الاحتفالات بداية مأساة الاحتلال. لقد كان لها تأثير هائل على أخلاقنا وديمقراطيتنا وأرواح أطفالنا ونقاء الأسلحة [أخلاق استخدام القوة]"

 

ومن جانبهم، يتحدث الفلسطينيون، عن استيائهم من تخلي القوات الأردنية عن مدينة القدس القديمة بلا معركة تذكر، ومفاجأتهم عندما اكتشفوا أن المدرعات التي تدخل المدينة ليست تعزيزات عراقية ولكن يهودية.

على أطراف الحي اليهودي في المدينة المسورة، يعيش أبو منير المغربي في شقة صغيرة من غرفة نوم واحدة، تعتبر متحفا مؤقتا لضياع القدس العربية. وعلى الجدار صورا المدينة، يظهر في إحداها وعمره 25 عاما، واقفا وسط أنقاض حيه، الحي المغربي الذي هدمه اليهود فور الاستيلاء على البلدة القديمة، وحولوا الزقاق أمام الجدار الغربي ـ أهم مكان لصلاة اليهود ـ إلى الساحة الواسعة القائمة اليوم. ويحتفظ الرجل بخريطة مرسومة باليد للمباني المختفية وقائمة من 138 عائلة تم القضاء عليها.

 

وكان أبو منير في عمان عندما اندلعت الحرب. وتسلل عبر الحدود للوصول إلى القدس ليجد منزله قد هدم. وظل لفترة يتولى تهريب الناس من وإلى الأردن. كما هرب أسلحة لحركة فتح، التي كانت وقتها حركة مسلحة صاعدة، وقضى بعض الوقت في السجن.

 

وتكشف قصته عن تغيير في تفكير الفلسطينيين. ففي حرب 1947-1948، عندما أنشئت إسرائيل، هرب الفلسطينيون أو تم طردهم بشكل جماعي. و دمرت مئات القرى. وعلى النقيض من ذلك، في عام 1967 اختار معظمهم البقاء على.

ويقول علي جرباوي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت الفلسطينية في الضفة الغربية: "كنا محظوظين لأننا هزمنا بسرعة وبصورة هائلة". واضاف "لم يكن لدى اسرائيل الوقت الكافي لترحيلنا".

 

وهناك أيضا بعض الفوائد غير المتوقعة: فقد جدد الفلسطينيون من الضفة الغربية، الذين ضمهم الأردن، صلاتهم مع الفلسطينيين من حيفا ويافا، التي كانت جزءا من الكيان الصهيوني بعد عام 1948؛ ومع غزة، التي وضعت تحت إدارة مصر. وقال السيد جرباوي: "لقد بعث الشعور الوطني الفلسطيني من جديد بسبب الاحتلال".

 

واندلع هذا الشعور مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1987. وحتى ذلك الحين، ظل الفلسطينيون الخاضعون للحكم الإسرائيلي هادئين، بينا كانت منظمة التحرير الفلسطينية، التي كرست نفسها لإزالة إسرائيل بالقوة، تشن الهجمات العابرة للحدود من الخارج. واعتبر التقرير أن الكفاح المسلح ، كان في معظمه، فاشلا. فقد خسرت منظمة التحرير الفلسطينية حربا أهلية ضد الملك حسين في الأردن عام 1970؛ وشنت حملة يسمها لا جارديا بالإرهاب الدولي، بما في ذلك مذبحة الرياضيين الإسرائيليين في أوليمبياد ميونيخ في 1972؛ ساعدت على التعجيل بالحرب الأهلية في لبنان في عام 1975؛ ثم طردها إلى تونس بعد غزو إسرائيل عام 1982.

 

وعلى النقيض من ذلك، تميزت الانتفاضة أساسا باشتباكات رشق الحجارة. ودمرت الوهم بأن إسرائيل يمكن أن تحتفظ بالأراضي المحتلة بتكلفة قليلة.

وأقامت اتفاقات اوسلو عام 1993 سلطة فلسطينية مستقلة تحت قيادة ياسر عرفات، زعيم منظمة التحرير الفلسطينية الذي عاد منتصرا في يوليو 1994. ويزعم التقرير أن ما يصفهم بالمتطرفين من الجانبين، شرعوا في تدمير الاتفاق بعنف لم يسبق له مثيل. وقتل مستوطن يهودي 29 فلسطينيا في صلاة بالخليل عام 1994. وبدأت حماس والجهاد الاسلامي، الفصيلان الاسلاميان، حملة تفجيرات انتحارية. وفي عام 1995 قتل يهودي يميني رئيس الوزراء، اسحق رابين.

 

وشملت الانتفاضة الثانية، التي عجل بها فشل محادثات السلام في كامب ديفيد عام 2000، البنادق والقنابل. ويرى معد التقرير أن عرفات كثيرا ما بدا متسامحا مع المسلحين أو حتى يشجعهم. ولم يحقق الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من لبنان في 2000 ومن غزة في 2005 (بعد وفاة عرفات) لم يحقق السلام. وخاضت إسرائيل حروبا متكررة ضد حماس وحزب الله، وكلاهما أطلق صواريخ عليها.

ويعتبر التقرير أن العقود التي مرت على "عملية السلام" جلبت الكثير من "العملية" ولم تجلب سلاما يذكر. وبالنسبة للإسرائيليين، أصبحت الأرض مقابل السلام أرضا للقنابل الانتحارية والصواريخ. ويقول يوسي كلاين هاليفي من معهد أبحاث شالوم هارتمان "إن معظم الناس يشعرون بأن الاحتلال لم يعد خطأنا". "خرجت من الانتفاضة الأولى مؤيدا لحزب العمل. لكن الانتفاضة الثانية نقلتني إلى اليمين ".

 

وبالنسبة لمعظم الفلسطينيين، أدت صفقة أوسلو إلى احتلال أسوأ: المزيد من سفك الدماء، والانقسام الداخلي، وضياع الأراضي التي استولى عليها المستوطنين، وتفتيت الأراضي.

 

ويعيش الفلسطينيون في هذه الأيام كلاجئين في العالم العربي؛ او في سجن مفتوح في قطاع غزة تديره حماس؛ أو في عدد من الجيوب المستقلة المعزولة في الضفة الغربية التي تديرها فتح؛ أو كمقيمين مهمشين في القدس؛ وكمواطنين من الدرجة الثانية يكافحون من أجل المساواة في حدود إسرائيل قبل عام 1967.

 

ويعتبر لا جارديا أن ما وصفه بالفوضى في الشرق الأوسط منذ الانتفاضات العربية في عام 2011 اقنع إسرائيل بخطورة التخلي عن المزيد من الأراضي: فماذا لو استولت حماس أو الدولة الإسلامية على تلال الضفة الغربية التي تطل على المناطق الأكثر اكتظاظا بالسكان في إسرائيل؟ يزعم التقرير أن اسرائيل كانت على وشك اعادة مرتفعات الجولان في محادثات السلام مع سوريا. والآن بعد أن زرعت الميليشيات مثل حزب الله وتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية نفسها على الحدود، فإن العديد من الإسرائيليين يشعرون بالامتنان لأن المفاوضات فشلت. ومن جانبهم، يشعر الفلسطينيون أن قضيتهم تخلى عنها العرب بعد أن كانوا يعتزون بها في السابق.

وتشير استطلاعات الرأي إلى أن معارضة فكرة السلام القائمة على الدولتين، صارت اقوى بين شباب الجانبين الذين تتراوح اعمارهم بين 18 و 24 عاما.

ويرى معد التقرير أن الحياة الآمنة في إسرائيل، خلف الجدار الأمني ​​والعقلية التي تقول "ليس هناك شريك من أجل السلام"، أكثر راحة مما كانت عليه في معظم تاريخ البلاد القصير. وقد تحسن الأمن الآن. وازدهر الاقتصاد. بل أنه يزعم أن المواطنين العرب في إسرائيل، الذين عاشوا بموجب القانون العرفي حتى عام 1966، أصبحوا مندمجين اقتصاديا على نحو أكبر. ويحاول معد التقرير إقناع القارئ، بأن الكيان الصهيوني صار من السهل عليه أن ينسى أن الاحتلال الإسرائيلي القاسي صار دائما.  

ملمحا إلى أن المجتمعين العربي واليهودي آخذين في التقارب إلى حد أن بعض اليهود والعرب في القدس يشاركون بعضهم البعض في لعبة الطاولة ويرقصون الدبكة الفلسطينية! وأن الموسيقى الإسرائيلية تعيد اكتشاف إيقاعات ونغمات الشرق! فيما يرحب الجيش بالنساء والمثليين، على الرغم من اعتراضات بعض الحاخامات! وصارت الخلافات القديمة على الاحتفال بالسبت، في معظمها، شيئا من الماضي. وحتى في القدس، ظهرت جزر العلمانية، حتى ان الكاتب يشبه مظاهر الحياة في القدس بالحياة في كاليفورنيا.

ولكن معد لتقرير يتغافل عن ذكر أجيال توالت منذ النكبة الأولى في ٤٨ ، وبعد نكسة ٦٧، مازالت تتوارث مفاتيح الدور، وتصمم على العودة واسترداد فلسطين السليبة، مهما كانت التضحيات، وعلى الرغم من الصفقات والمؤامرات الدولية والإقليمية.. كما يتعامى عن درس التاريخ الرئيسي: إن الاحتلال إلى زوال مهما طال الزمن، وأن كلمة الشعوب هي الفاصلة!

 

مقالات متعلقة