فتية الكهف.. حين يهزم اللسان الأسلحة الفتاكة

في الجزء الخامس عشر وردت قصة أصحاب الكهف، وهم كما وصفهم الله تعالى "فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى".

ونقف وقفة مع مطلع القصة الذي بدأ الله عز وجل به في السورة في قوله تعالى "وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذًا شططا".

وفي الآية إشارة إلى ثلاثة متطلبات لقول الحق:

الأول: وهو الربط على القلب وتوفيق الله عز وجل وعونه "وربطنا على قلوبهم".

الثاني: وهو الهمة لقول الحق، وهو ما يظهر من القيام له، والقيام عليه "إذ قاموا".

الثالث: وهو إظهار الحق على ملأ يرتجى هدايته "قاموا فقالوا".

أما المتطلب الأول: فإن لفظ "ربطنا على قلوبهم" يوحي بعظمة ما سيأتي بعد، ولربما يتوقع من لم يعرف القصة أنه سيتبعه أمر جلل، ثم يأتي لفظ "إذ قاموا" فنتوقع المزيد من قوة الفعل، ثم نتفاجأ بلفظ "فقالوا".

وهنا يثور السؤال: وهل القول يحتاج لكل هذه القوة في التعبير؟!.. نعم لأن من القول ما يهلك، وقد يكون إعلان التوحيد أمام الجبارين مهلكة.

والله تعالى يقول في هذا المعنى "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا...".

لذلك عد رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء مع حمزة رجلا قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله.

ذلك لأن القول أحيانا يكون أشد على الطغاة من ألف فعل، لأن وجود اعتراض من أيٍّ من الرعية يهدد أركان التمكين للظالم، فهو يريد الاستسلام التام، ومادام صوتٌ يعارض فالظالم مترقب لأن في الحق قوة ذاتية يخشاها الظالم مهما بدا متمكنا، لذلك كان الكفار يخشون مجرد سماع الحق فقالوا "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه"، فيكون القائم عندئذ لقولة الحق معرضا نفسه لخطر البطش من الظالم.

وقد عشنا نحن إلى زمان يجرم فيه النداء بمرجعية شريعة الإسلام، ويجرم فيه الجهر بالثوابت المستقرة منذ عهد النبوة، من مثل أن حجاب المرأة فريضة وليس حرية شخصية مادامت مسلمة، ومثل أن الدين عند الله الإسلام وأن غير المسلم كافر وأن والجنة عند الله للمسلمين فقط.

أما المتطلب الثاني: وهو الهمة لقول الحق، بالقيام له والقيام عليه:

فالقيام يوحي بالاستعداد والتأهب وكمال العناية، وتربية النفس على البذل والتضحية في سبيل المبادئ، فليس قولا فاترا أو على استحياء ولا هزيلا ولا ضعيفا، ولأنه الحق فينبغي أن يصحب بقوة الأداء وشدة الوقع حتى يأتي الباطل فيدمغه "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق".

ولذلك نجد في وصف الرجل المؤمن في سورة يس قول الله تعالى "وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى"، إشارة لللهمة العالية والثقة والقوة في إظهار الحق.

وأما المتطلب الثالث: وهو إظهار الحق على ملأ يرتجى هدايته:

فلفظ "قاموا" يوحي بتجمع من الناس وبإشراف القائم على هذا الجمع، فقائل الحق لا يستخفي به، وهذه صورة ترتسم في الذهن حين سماع لفظ القيام في هذه المواضع، وتأمل "إذا قاموا فقالوا" "وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى" وحديث "ورجل قام إلى إمام جائر" كلها توحي بالجمعية والمجاهرة أمام ملأ.

وهذا ما ينبغي أن يُحسنه الداعية فيستغل الوقت المناسب الذي يرمي فيه حقه على الباطل ليدمغه.

ومن فوائد هذا الإعلان للحق والجهر به إثارة الأسئلة في نفوس الناس، لأن الناس سيفكرون حتما: إذا كانت الغريزة هي حفظ النفس، والعقل يقتضي ألا يضحي المرء بنفسه مختارا إلا في سبيل شيء أعظم من نفسه، فيقولون "علامَ يهلك هؤلاء أنفسهم؟!"، فيكون السؤال منطلقا للتفكير في هذا الحق الذي يحمله المؤمنون، ولربما اهتدى بذلك خلق كثير.

وفي قصة غلام الأخدود عبرة ونموذج حي لهذا المعنى الذي ذكرته، فلنراجعها في تفسير سورة البروج، ولنقرأها كما وردت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى نثبت في نفوسنا اليقين.

 

مقالات متعلقة