في سورة الشعراء يقص علينا المولى سبحانه طرفا من حوار سيدنا موسى مع فرعون، يتجلى من خلاله كيف يلجأ المستكبرون إلى القمع حين لا يجدون سبيلا لمقارعة الحجة بالحجة، وحين يعوزهم دفع الرأي بالرأي.
فالحالة النفسية للمستكبر الجبار أن لا مجال عنده إلا أن تقدس آراؤه مهما بلغت تفاهتها، فالخبل منه رأي سديد، والسفه منه عين الحكمة.
وعادة الطاغية أن يلجأ إلى كيل الاتهامات بالباطل لكل من تسول له نفسه معارضته، أو ادعاء أن الحق جانبه هذه المرة، وإن كان من رجاله وأعوانه، فلا مجال عنده لقبول فكرة أنه قد يخطئ.
وهذا جانب من الحوار الوارد في سورة الشعراء بين فرعون مصر وبين موسى عليه السلام: "قال فرعون وما رب العالمين . قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين"
سؤال محدد عليه جواب واضح ومقنع، فرب العالمين المستحق للعبادة هو من يملك أمر السماوات والأرض.
وهنا يلجأ فرعون لاستثارة الحاشية لترد مدافعة عنه: "قال لمن حوله ألا تستمعون".
فيخاطبهم موسى: "قال ربكم ورب آبائكم الأولين".
وهنا يأتيهم بدليل يفهمونه، لأنهم يعلمون أنه قد كان لهم آباء وأنهم قد فنوا وأنه لا بد لهم من مدبر لهذه الأجيال المتلاحقة فلا يعقل أن تكون موجودة عبثا، وهاهم كانوا بعد أن لم يكونوا وهذا دليل الخلق الدال على الله تعالى.
فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف: "قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون".
فيمضي موسى في حجته متجاهلا سفاهة الرد: "قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون".
فهو مالك كل شيء ولا سبيل إلى إنكاره كما لا سبيل لأحد إلى ادعاء تملكه شيئا من هذا الكون.
فلما انقطعت الحجة عن فرعون رجع إلى الاستعلاء والتغلب والقهر، فتوعد موسى بالسجن.
وكان الأوفق لمن يبغي الحق أن يسأل عن دليل ملكيته للمشرق والمغرب، أو يسأل عن أمارة أن هذا الإله أرسلك، لكنه يترك كل هذا ويقول: "قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين".
ثم يستعين فرعون بالسحرة للانتصار على موسى؛ فيهزم سحرهم بأمر الله، ويعلن السحرة اقتناعهم بالحق وأن ما جاء به موسى ليس سحرا، بل هي قدرة بالغة لا تكون إلا من إله خالق قوي.
وهنا، أفلا يسلم للحق بعد بيان وجلاء؟ لا، بل اتهم رجاله الذين استعان بهم واختارهم لنصرته: "قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين".
وبمنتهى اللاعقل يتهم فرعون السحرة الذين انتقاهم على عينه بأنهم تلاميذ موسى وأن موسى كبيرهم الذي علمهم السحر.
وأعمق منه في اللاعقل أن يصدق الناس هذا الادعاء دون أي تفكير، فيباركون صلبهم ويفرحون بالخلاص منهم، وصدق الله تعالى حين قال واصفا حال فرعون مع قومه "فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين".