صدر حديثًا عن الآن ناشرون وموزعون، ديوان "تراويد الغيم والشفق" للدكتور صلاح جرار، ليفصح في قصائده عن شاعر غزِل عاشق، ثائر، مفتخر، مثقل بآلام وطنه وشعبه وأمته.
وقبل أن ندخل إلى العالم الشعري "ترويدة الغيم والشفق" سنقف عند العنوان الذي يحمل في طياته زخمًا تراثيًا موسيقيًا يتمثّل بكلمة ترويدة، التي تعني ترديد اللحن وتكراره، كما نلحظ ذلك في تراويد النساء في تراثنا الشعبي في مناسبات الفرح وغيرها، والترويدة حالة من الضراعة تريد أن تستولد الفرح من الحزن، والفرج من الكرب والأمل من اليأس. أما كلمة "الغيم" تدل على الغموض، لكن الغيم في الوقت نفسه يبشر بالخير والأمل بالغيث، وكذلك "الشفق" يحمل دلالة الغموض، فشفق المساء مقدمة للأفول، أما شفق الصباح فمقدمة للفرج والخير، وبذلك تكون الدلالة الكلية للعنوان هي امتزاج الأمل باليأس، والكرب بالفرج.
يقع ديوان "ترويدة الغيم والشفق" في ما يقارب (200) صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على (74) قصيدة، لكل منها خصائصها ومضامينها، إلا أنها تشترك معا بقوة تعبيرها، وخفة وزنها، وخيالها الخلّاق.
ومن أهم المضامين التي وقف عليها الشاعر، في قصائده: الغزل الذي لا يكاد يخلو منه ديوان عربي، ذلك الغزل العفيف، الذي يعاني المحب فيه من الحنين والحرمان، كما في قصيدة" ذهبٌ على الخد"، التي ذهب فيها مذهب الموشحات الأندلسية التي درسها ضمن تخصصه بالأدب الأندلسي:
نَمشٌ في وجنتيه نُقِشا لم أزَلْ أعْشَقُ ذاكَ النَّمَشا فكأنَّ الله قد زَيَّنَهُ وكأنّ الحُسْنَ فيه قد نشا يا لقلبي من حبيبٍ جائرٍ وقُميرٍ لاح في الأفْقِ عِشا وحنينٍ في فؤادي قد سرى واشتياقٍ في ضلوعي قد فشا
وينال المحب من محبوبه وصلا، ويحقق مراده منه، كما في قصيدة "هي الشمس"، والغزل بنوعيه في "ترويدة الغيم والشفق" رقيق شفيف، مثقل بالمشاعر الجيّاشة الصادقة، عذب الخيال والصور.
وعند ذكر الحب في الشعر لا بد من التعريج على ما يغّذي هذا الحب، ويصل به إلى قمته، وهو الفقد والحرمان، وما يعانيه المحب من آلام الفراق، كما نشاهد في قصيدة "سيد الأسرار".
والشاعر الغزِل المرهف لا يمكن أن يغض الطرف عن الطبيعة الساحرة الغنّاء، ولا يستطيع التوقف عن تأملها وذكر تفاصيلها الخلّابة، والتغنّي بصورها الجميلة، وذلك في قصيدة" حين يطلع الفجر"، وفيها مزج الشاعر بين الطبيعة والذكرى فقد هيّجت تفاصيل الطبيعة الجميلة دموعه، وأيقظت شوقه لزمن تولّى، نَعُمَ فيه بقرب محبوبه ووصاله.
وهذا الشاعر الرقيق في صوره ومعانيه قد يثور أحيانا، ويرفض الطواعية، بل ويحلّق نحو الشمس مبتعدا عن كل ما يؤذيه ومن يؤذيه، وقد تجلّت هذه الشخصية الجريئة في قصيدة "الطريق إلى الشمس" ويقول فيها:
أنا لن أطاوع مِنْهُمُ أحدا كلّا ولن أختارهم سَنَدا ولئن وثقت ببعضهم زمنا فاليوم لن أرضى بهم أبدا أحرزت مجداً فوق مجدهم ومشيتُ نحو الشمس متئدا
ويعود قلبه ويرّق من جديد في مناجاة ربه والتضرّع إليه، طالبًا منه العفو والرحمة وإجابة السؤال، ومن ذلك ما ورد في قصيدة "مناجاة".
وتبقى القدس وفلسطين همّ الشاعر الأول، وقضيته الكبرى، لم يتجاوز عن ذكرها في أيٍّ من دواوينه، فهي جرحه الغائر الذي يستوطن قلبه، ويشغل فكره، وقد خصّ القدس بقصيدة بعنوان "للقدس رب يحميها"، كما ورد ذكرها إلى جانب فلسطين في أكثر من قصيدة، ومنها في قوله في قصيدة "مستحيل على العدا أن تسودا":
جاوزوا قَدْرَهُمْ وجازوا الحدودا وبغوْا في البلاد بَغْياً شديدا وفلسطين ذاقت المرّ منهم حين راموا لِشعبها تشريدا كلّما احتجّ واحدٌ من بنيها أطلقوا الحرب دونه والوعيدا دمّروا كلّ مسجدٍ وضريحٍ وأهانوا تاريخها والجدودا
وتبقى فلسطين في الديوان مرفوعة اللواء، رغم ما تتلقاه من طعن وحصار وغدر وتخاذل، لكنّ همّ الشاعر الأول وقضيته الكبرى لم ينسيانه قوميته العربية التي ما انسلخ منها يوما، فهو الفلسطيني العربي الذي يروّعه ما يحدث في وطنه الكبير من موت وحرق وتمزيق وإفساد، كما صوّر لنا في قصيدة"بركان".
والدكتور صلاح جرار؛ ولد في جنين (1952)، حصل على درجتي البكالوريوس والماجستير من الجامعة الأردنية، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة لندن، تولى مناصب إدارية وأكاديمية ورسمية منها: وزير الثقافة( 2011/2012)، القائم بأعمال رئيس جامعة العلوم الإسلامية(2013/2014)، نائب رئيس الجامعة الأردنية(2007/2010)، وغيرها، وهو حاليا أستاذ الأدب الأندلسي والمغربي في الجامعة الأردنية منذ(1982).
صدر له عشرات المؤلفات والأبحاث العلمية في الأدب العربي، ومن إصداراته:" زمان الوصل" شعر، "ولّادة بنت المستكفي" دراسة،" المنامات الأيوبية" نصوص بأسلوب المقامات،" جادك الغيث" شعر، "في طريقي إليك" شعر" وغيرها الكثير.