"وأنت ما اشتغلتش في بلدك ليه؟"، ربما يبدو سؤالا ساخرا أو على سبيل المزاح ولكنه ليس كذلك، طرحته المذيعة على الصبي "محفوظ دياب"- أو كما لقبته وسائل الإعلام بـ "طفل التهريب"، ليجيبها بعفوية وصرامة "مفيش شغل في سوهاج"، بدى وكأنها اندهشت من الإجابة فأعادته عليه مرة أخرى "مفيش شغل في سوهاج؟"، اعتلى التحدى نبرات صوته أكثر :"أيوه مفيهاش شغل".
حوار دار لبضعة دقائق بين المذيعة والصبي، تلومه على ترك محافظته وعمله بالتهريب و"الشغل الحرام" لسلك الطريق الأسهل للثراء الفاحش، بينما كان يدافع عما يفعله وأنه ضحية عدم وجود وظائف بمحافظته، ليسلط هذا السؤال الضوء على حال تلك البقعة التي هجرها الصبي وغيره كثيرون حتى باتت تلقب بـ"عاصمة الفقر".
بدأت القصة حينما نشرت الصفحة الرسمية لمحافظة بورسعيد على موقع التواصل "فيس بوك"، فيديو للمذيعة سلوى حسين في لقاء مع عدد من الأطفال الذين تم إلقاء القبض عليهم أثناء تهريب "ملابس" بالجمارك، ولكن الطريقة التي أجرت بها المذيعة اللقاء وهي تستوجبهم بحدة، وردود الطفل "محفوظ دياب" على تلك الأسئلة، خلقت حالة واسعة من التعاطف مع هؤلاء الأطفال.
وقف الصبي يستمع إلى المذيعة وهو يرمقها بنظرات حادة حين سألته لماذا لم يذهب للعمل في الاستثمار أو شركة نظافة، رد عليها بتهكم اعتلى نبرات صوته :"اشتغل بـ50 جنيه في اليوم"، فعنفته ثانية :"لكن حلال"، بدى من عينيه أن لديها الكثير ليبوح به من قسوة ما يعاني، ولكنه أكتفى بكلمات أشد قسوة "أنت محساش بالناس".
في بداية اللقاء سألت المذيعة "جي من سوهاج لبورسعيد عشان تشتغل بالتهريب؟"، فأخبرها الطفل ومعه شاب في عقده الثاني "البلد حدانا مفيهاش شغل"، وما بين السؤال والجواب، تقف عدة أرقام تكشف الواقع الذي تعيشه تلك المحافظة التي باتت "طاردة لأهلها" بحسب الإحصائيات الرسمية.
منذ عشرات الأعوام وتحتفظ سوهاج بصدارة تصنيف المحافظات الأكثر فقرا في مصر، إذ تشير الأرقام الرسمية إلى أن نسبة الفقر فى مصر 27.7%، ومحافظات الصعيد هي الأكثر فقرا بنسبة تجاوزت الـ 50%، على رأسها أسيوط وسوهاج بنسبة تصل إلى 66%، ويليها قنا بنسبة 58%، وفق إحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2017.
وفي نفس التقرير الذي صنف سوهاج في أكثر المحافظات فقرا، جاء ترتيب محافظة بورسعيد في المحافظات الأقل فقرا بنسبة 6.7%، ثم الإسكندرية بنسبة 11.6%.
وجاء في التقرير، أن أعلى نسبة للفقراء في مصر تتركز في محافظات الصعيد، وخصوصًا في محافظتي أسيوط وسوهاج بنسبة 66%، تليهما قنا بنسبة 58%، وأن أقل محافظة بها فقراء هي محافظة بورسعيد بنسبة 6.7%، ثم الإسكندرية بنسبة 11.6%.
ووفقا لإحصائية أعدها صندوق الأمم المتحدة للسكان ومركز بصيرة، في يونيه 2017،
بلغ عدد سكان محافظة سوهاج "4862798" نسمة، بكثافة سكانية قدرها "3009.2" نسمة لكل كيلو متر مربع لعام 2016، وبلغ عدد المواليد "158436" مولودا فى عام 2015 بمعدل 33.9%، في حين بلغ معدل الوفيات 5.9%، بمعدل زيادة طبيعية 28%.
تأتي هذه الأرقام رغم إعلان الحكومة في عام 2009 البدء في تنفيذ برنامج لتنمية القرى الفقيرة بسوهاج بواقع 2 مليار و98 مليون جنيه، لرفع مستوى معيشة السكان والحد من نسبة الفقر، والذي يبدو أنه لم يحقق شيئا على أرض الواقع، وإلا لم تزداد نسب الفقر بالمحافظة عاما تلو الأخر، فبحسب الإحصائيات يبلغ عدد المتعطلين عن العمل عام 2015، 130600، أي تصل نسبة البطالة إلى 50%، فيما تصل نسبة الأمية 30%.
السؤال الذي طرحته المذيعة لـ"طفل التهريب" عن أسباب سفره من سوهاج إلى بورسعيد للعمل، أثار غضب العديد من أبناء المحافظة الصعيدية على مواقع التواصل الاجتماعي، فراحوا ينقلون بعض المشاهد التي تؤكد أنها محافظة طاردة لسكانها.
تقول سارة أبو بكر، من أبناء سوهاج وتقيم بالقاهرة، إن سوهاج من أفقر 3 محافظات في مصر، ولا تتوافر بها أي سبل للحياة، لا خدمات ولا وظائف ولا حياة كريمة، لذا يهجرها الكثير من أهلها ويسافرون إلى دول الخليج أو القاهرة أو أي محافظة أخرى داخل البلاد.
وتضيف أبو بكر لـ"مصر العربية" أن سوهاج مقسمة إلى مراكز وقرى، ولا يتوفر بها أي وظيفة إلا في المحافظة ذاتها وبرواتب غير مجزية ربما لا تتجاوز الألفي جنيه أو 3 آلاف لوظائف محدودة، ولكن حتى الذهاب إلى مقر العمل يكلف صاحبه الكثير من الأجرة في المواصلات لينتقل من المركز إلى المحافظة.
"الناس عشان تجيب فلوس وتعرف تتجوز وتفتح بيت بتسافر الخليج، ومعظم سكانها عايشين هناك، و محافظات تانية داخل مصر، هي بكل الأحوان محافظة طاردة للسكان"، هكذا تصف "سارة" الفتاة العشرينية صورة مما يعيش عليه أبناء سوهاج، لتؤكد أن ما تعلنه الحكومة من مشاريع لتنمية الصعيد لم يظهر له أي أثر على محافظتها حتى الآن.
لم يختلف رأي "المعلم بوب" - كما يطلق على نفسه- عما قالته تلك الفتاة العشرينية، إذ يرى ىأن معظم أبناء سوهاج يقيمون في القاهرة وغيرها من المدن وخارج مصر، وذلك لأنها محافظة معدومة الخدمات والوظائف والمصانع، تعتمد فقط على الزراعة، فضلا عن انتشار نسبة الأمية فيها.
بحسب تقرير التنمية البشرية عن المحافظات الأكثر فقراً، والذي صنف محافظة سوهاج في المركز الثاني، فهناك أربع مناطق صناعية بالمحافظة هي المنطقة الصناعية بحي الكوثر على مساحة 600 فدان، والمنطقة الصناعية غرب طهطا بمساحة 911 فداناً، والمنطقة الصناعية بالأحايوه شرق بمساحة 250 فداناً، والمنطقة الصناعية بغرب جرجا علي مساحة 1086 فداناً.
ولكن بعد ثورة 25 يناير 2011 توقف نحو 30% من هذه المصانع، وساءت الأوضاع في سوهاج من سيء إلى أسوأ، ويزداد أنين المواطنين لاسيما قاطني القرى الذين تفشت من بينهم الأوبئة وأمراض الفشل الكلوي.
صورة أخرى عن المحافظة ينقلها الصحفي محمود العمري قائلا :"أنا من سوهاج ومفيش شغل في المحافظة، ولو فيها شغل كنا قعدنا فيها.، ومعظم محافظات الصعيد كده".
يرى العمري، بحسب منشور له على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، أن القصة ليست في أطفال تعمل بالتهريب، ولكن هي أن الطفل السوهاجي "محفوظ دياب" أعطى درسة حقيقي أن محافظات الصعيد والقرى الريفية كافة تحتاج إعادة نظر حقيقية، مضيفا :"محتاجة تتشاف من قلب النجوع .الظاهر قدمنا حلو لكن اللي جواها محتاج يتعافى ويقوم".
ويؤكد العمري أن الحل ليس في جعل هؤلاء الأطفال أبطال، ولكن في تصعيد القضية ذاتها، وهي أن محافظات الصعيد بحاجة إلى المعالجةوالتنمية، إذ يرى أن ما حدث سلط الضوء على قضية مهملة، ولكن آن الآوان لوضع حلول جذرية لها.