ارتبطت قضية اللجوء الفلسطيني، وحق العودة برمزية المفتاح، واعتقد اللاجئ الفلسطيني أن بعد الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، والهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية، صِدق ادعاءات الأنظمة العربية بأن الهزيمة مؤقتة، وأن الأرض ستعود إلى أصحابها قريبًا. ترك الفلسطيني أمتعته وأثاثه وحمل مفتاح بيته، ونزح عنه، ولم يكن يعلم أن اللجوء سيطول، وأن المنزل سيستولي عليه المستوطنون الصهاينة، وأنه سيهدم، ويُبنى مكانه بيت جديد، له مفتاح ليس في جيب الفلسطيني. لكن الإنسان الفلسطيني مع ذلك لم يتخلَّ عن حلمه وأمله بالعودة، وحوَّل المفتاح إلى رمز لحق العودة، وأيقونة نضال لا ينتهي.
لكن المفتاح لدى بطلة رواية "أبواب ومفاتيح" للكاتبة د.سوزان دروزة، الصادرة مؤخرًا عن الآن ناشرون وموزعون في عمّان، لم يكن في البداية رمزاً للعودة، وبالرغم من أنها تقيم في وطنها، لكنها كانت من دون بيت له باب ومفتاح تستطيع أن تغلقه خلفها، لتحيا مع أسرتها حياتها الخاصة.
عزيزة، بطلة الرواية، تلك المرأة الفلسطينية البسيطة، التي وجدت نفسها متزوجة من رجل يكبرها سنًّا، متزوج وله أولاد أكبر من "عزيزة" نفسها، تنجب منه أربعة أبناء، ثلاث بنات وصبي، ثم يتوفى الزوج، فتجد عزيزة نفسها من غير بيت يؤويها هي وأطفالها، حتى تجد في مديرة إحدى مدارس الإناث إنسانة تشفق عليها وعلى حالها، وتستخدمها آذنة في المدرسة، وتسمح لها بالمبيت سرًا في المدرسة، حيث تقتطع بواسطة ألواح الخشب "الأبلكاج" حيزا من مطبخ المدرسة يُؤوي له أبناؤها بعد مغادرة الطالبات والمدرِّسات.
كيف يمكن أن يكون حال ذلك البيت؟ وكيف يمكن أن تكون حياة تلك العائلة؟ بيت غير ثابت، لا أثاث فيه، سوى فراش وبطانيات تُطوى وتُخفى في الصباح الباكر، قبل أن تأت الطالبات، وقبل أن يشعر أحد بوجودهم، وإلا أُخرجوا من المكان. بيت من دون باب وبالتالي من دون مفتاح، كيف يكون شعور الإنسان الذي يسكن فيه، إنه بالتاكيد لن يشعر بالخصوصية، ولا بالأمان، وهل يمكن أن يكون هناك انتماء لإنسان لا يملك بيتًا للمكان الذي يعيش فيه؟ لعل هذه الإشكالية التي بُنيت عليها تيمة الرواية. وتدور أحدات الرواية في "نابلس" التي تخضع للاحتلال إثر هزيمة حزيران 1967، ومعها ينخرط أبناء عزيزة بالهمِّ الوطني، وابنها الوحيد كامل يشارك بالمظاهرات ويُعتقل، وتنقطع أخباره، وابنتها المشاكسة "هدى"، المتمردة على حياة غرفة الأبلكاج المقتطعة، تجد نفسها منخرطة في المظاهرات المقاوِمة للاحتلال. أمّا الأم التي كان لديها فهمٌ آخر للوطنية والمقاومة، فهي تؤمن بالمقاومة من خلال العلم، إلا أنها تقف إلى جانب ابنيها.
هذه الصورة التي تقدِّمها الرواية للإنسان الفلسطيني ليست منفصلة عن ظروف حياته، ونضاله، فالوطن لمن يدافع عنه، وليس فقط لمن يملك فيه بيتًا أو أرضًا، فأكثر اللاجئين والنازحين، الذين انخرط أكثرهم في النضال ضد الاحتلال هم ممن لا يملكون بيوتًا، أو أراضي، ومع ذلك كانوا هم الأشد تشبثًا بوطنهم، والأكثر ضراوة في كفاحهم ضد المحتل، والأكثر إيمانًا بعدالة قضيتهم ونصرهم.
صحيح أن عزيزة وبناتها ينتقلن إلى الأردن ويسكنّ في مخيمٍ في عمّان نتيجة الظروف الصحية النفسية التي خرجت بها ابنتها "هدى" من المعتقل، ونتيجة ظروف دراسة بناتها، وصحيح أنها استطاعت أن تستأجر بيت مستقل في المخيم له باب ومفتاح تفرح له البنات، إلا أنها تظلُّ متعلقة بالوطن، والعودة إليه، وامتلاك بيت وباب له مفتاح فيه، لكن القدر يكون لها بالمرصاد، فيتوفاها الله بعيدة عن وطنها، إلا أن حبها لوطنها ينتقل إلى أبنائها.
الرواية مليئة بالفاجعة، والألم، لكنهما لا يحولان دون ولادة إنسان قوي، منتمٍ. وكتب الدكتور عبد الباسط المراشدة؛ أستاذ الأدب العربي في جامعة آل البيت، عن الرواية قائلًا: "هذه الرواية تمسّ الواقع في تقنية الإيهام به، وهي تتناول حياة عائلة فقيرة، ترسم تفاصيل تُقارب السيرة الذاتية، وترتقي في أدائها الفني وفي لغتها وبناء شخصياتها الخارجية والنفسية والصراع القائم بينها وبين مرارة الأحداث حتى تصل إلى نهاية مغلقة في جانب ومفتوحة في جانب آخر. لا يغادر القارئ هذه الرواية إلا مفعما بإحساس المأساة لفداحة ما يحل خلالها من معاناة وألم". ومن أجواء الرواية نقرأ:
"أحلم بغرفة، أحلم بسرير، أحلم ببابٍ، أحلم بمفتاحٍ، أحلم بوطنٍ حر بلا حواجز، أربعٌ، وخامسنا أخي.. سقفنا السماء، شركاؤنا شجرتا نارنج وليمون، ونجمات هن سلوى الليل الطويل، وقمر، الزائر الوحيد في ليالي الوحدة، أربع وخامسنا أخي".
"لنابلس رائحة طيب معتقة لا يعرفها إلا من عايش الزقاق، بلدة المغامرات، حاضنة الياسمين، وحكيمة الجارات، الرقيقة، المعروفة بجبل النار، يتقاسم دلالها جبلا عيبال وجرزيم، أزقة وحارات تحكي كل منها حكاية، أما أسواقها العتيقة المزدانة بالأقواس فتروي تاريخ المدينة، الباعة المتناثرون هنا وهناك يدركون جيدا كيف ولدت نابلس... تأخذك المباني القديمة، والنوافذ المعلّقة، وكذا مدارسها العتيقة بذاك التصميم الهندسي العتيق وموقعها بين الحارات، لتلك المدارس جيرانها ومعارفها، أعمدتها القديمة، وجدرانها المتينة، ونوافذها المرتفعة، ذات الأقواس، وحديد الحماية...
تمشي في شوارعها، فتهجم عليك رائحة تحميص بذور البطيخ، والتمباك العجمي، معلنة عن لقاء نسوي مشحون بالأخبار من كل نوع: سياسية، واجتماعية، وثقافية، لأهل المدينة الذين اعتادوا الجلوس على عتبات بيوتهم آخر النهار، تلك الجلسات التي تسمح للياسمين النابلسي بأن يطلق رذاذ عطره ليعمَّ المكان، الجيران يأتون بمقاعدهم، ويحملون دلال القهوة التي تفوح منها رائحة الهيل".
يذكر أن، الكاتبة د. سوزان دروزة؛ تحمل درجة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من الجامعة الأردنية، وشهادة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة الشرق الأوسط، وشهادة الدكتوراه في إدارة الأعمال من جامعة عمان العربية. شغلت عدة مناصب إدارية في جامعة العلوم الإسلامية منها: مساعد عميد لشؤون الطالبات ، ومساعد عميد للبحث العلمي، وتعمل الآن أستاذ مساعد في جامعة العلوم الإسلامية، وهي عضو في منتدى الرواد الكبار وفي عدد من الجمعيات الخيرية، ولها العديد من الأبحاث المنشورة في مجلات محكّمة في مجال إدارة الأعمال.