كثيرون من القراء يبحثون عن الابتسامة والضحكات عند انتقاء الكتب، وانتشرت في الأسواق خلال الآونة الأخيرة العديد من الأعمال الأدبية الساخرة، وهذا النوع في أغلب الإصدارات وجد خصيصًا للنقد ولكن في صورة غير مباشرة وفي قالب ترفيهي. والكتابة الساخرة ليست دعوة للضحك والترويح والترفيه، فهي حالة ثورية وتغييرية، نقدية وهجومية، تسعى نحو التغيير، ونقد كل ما هو قائم، وحول هذا الموضوع يدور كتاب "الكتابة الساخرة في الصحافة" للدكتور محمد جرادات، الصادر مؤخرًا عن الآن ناشرون وموزعون في عمّان. ويرى الكاتب، أن الكتابة الساخرة موقف شامل جذري، ذو طابع ثوري، جوهره التغيير لما هو أفضل للمصلحة العامة، متجاوزًا فكرة الضحك والإضحاك.
ويشير الجرادات في كتابه إلى أن الكتابة الساخرة، كتابة مكثّفة، تحتل موقعًا متقدّمًا في قمة هرم الكتابة، وتعدّ من أشهر الأساليب الكتابية المعروفة، وهي سياسيّة بامتياز، حتى لو ظهرت بألوان أخرى. وتابع: "الكتابة الساخرة جديّة وثائرة حتى لو أضحكتنا أو أبكتنا، وفيها دعوة للتأمل وإعادة النظر وتصحيح الاعوجاج. إنها ليست تجميعًا وإعادة توزيع للمفردات الشعبية، وليست تهريجاً أو افتعالًا للضحك وصناعة الموقف، وليست نصًا يمكن تأليفه أو توليفه أو صناعته، وليست ذات علاقة بالتفاهة ومحاولات الإضحاك السمجة، إنما هي موقف لا يصدر إلا عن صاحب موقف". لفت إلى أن مفهوم "الكتابة الساخرة" متعدد ومتنوع، حيث يتّفق كثير من المختصّين والباحثين على أن هناك صعوبات جمّة في تعريف وتوصيف الكاتب الساخر، لا سيّما في الصحافة، وهل هو الكاتب الذي يكتب باللهجة المحلية؟ أو هو الذي ينهل من مفردات قصص التراث والحكايات الشعبية؟ أو هو الذي يكتب ليُضحك الآخرين؟. ويرى المؤلف أن الكاتب الساخر يحمل شخصية ساخرة وناقدة ومرحة في الأساس، قادر على تسليط الضوء على ما هو غير رسمي من الظواهر في حياة الإنسان والمجتمع، كأن يكون هناك مشهد عام تقليدي ويراه الناس طبيعياً وعادياً، لكنه بنظرته ومفارقته يحوّله من مشهد عادي إلى حالة من السخرية التي تثير الانتباه، هادفًا إلى تعرية القبح، وإظهار وجه الحياة من دون تنميق أو ابتذال. ويوضح في كتابه، أن الكاتب الساخر، قارئًا نهمًا؛ لأنه بغير ذلك لن ينجح في كتابة أي شيء، مشيرًا إلى أن الكتابة الساخرة ليست نقداً لاذعاً وحسب، وليست قدرة على التقاط الفكرة واختزالها وحسب، وليس ضحكة وحسب، إنها كل ذلك مجتمعًا مع تفاعل عضوي بتجربة سياسية وحرمان من الحريات العامة، لا تخلو من اعتقال وتعذيب وقهر ومعاناة، واشتباك في الميدان، وقدرة على التقاط الصورة والمشهد واللحظة، فكل هذا يجب أن يكون متوافراً في الكاتب الساخر.
وأكمل: "على الكاتب الساخر أيضًا أن يكون ناقدًا بالضرورة، ومهاجمًا عنيدًا وقويًا ومؤثرًا، إذ لا يمكن أن تنسجم الكتابة الساخرة مع المديح أو الولاء، وهي بطبعها هجومية ناقدة مشاكسة معارضة، ولاقطة لمختلف السلبيات، وغير ذلك تصبح مقالة عادية لا يجوز تصنيفها مقالة ساخرة، ولا يصنّف كاتبها كاتباً ساخراً.
وعن أهمية الكتابة الساخرة في الصحافة، بيّن الكاتب أنها تشكّل قيمة مضافة للصحيفة، حيث تسهم في خلق حالة من التفاعل والحوار والجدل، فهي ليست إكسسواراً في هذه الصحيفة أو تلك، أو ملء فراغ هنا وهناك، إنما هي موقف عميق يسعى إلى التغيير لما هو أفضل وأنقى.
لكنه يأسف أنها بدت في المشهد السائد اليوم بعيدة عن جوهرها، وكأنها اختلفت وخلعت ثوبها الحقيقي، لترتدي ما هو غير لائق بها في كثير من الأحيان، وأصبحت مليئة بالمديح والتبرير والدفاع عن الحكومات والسياسات، ولا تخلو من تناقضات بين مقالة وأخرى، وأوضح ذلك قائلًا: "مرّة تجد الكاتب الساخر يدافع ويبرر، ومرّة تجده يهجم دون أن يمسّ أحداً، وبالتالي يستفاد منه ويوظّف بما يخدم السلطة أكثر مما قد يعرّيها، أو يفضح سياساتها الخاطئة، كما أن غالبية الصحف تميل إلى من يكتب وفق رؤيتها ورغبتها وسقوفها".
ولتستقيم الحالة الساخرة برمتها، ولتصويبها وتوجيهها إلى الطريق المطلوب، ولكي تعود إلى حالتها الجوهرية الحقيقية، أكّد المؤلف على أهمية وضرورة وجود نقّاد للكتابة الساخرة والكتّاب الساخرين، يبتعدون عن المديح أكبر قدر ممكن، وقادرين على توجيه سهامهم إلى الكاتب الساخر الذي يفترض فيه أن يوجّه سهامه وهجومه إلى الجميع.