الزمان: 1959، المكان: إحدى قاعات السينما، عم الظلام أرجاء المكان لتضئ الشاشة على مشهد امرأة ترتدي السواد تقف في بداية طريق ممتد أمامها، ليتصدر فيلم "أنشودة الجندي" Ballad of a Soldier، عناوين ومنشتات الصحف بأنه أفضل عمل أنتج في هذا العام. واختارت لجنة السينما بمؤسسة شومان الثقافية، أن تختتم عروضها لعام 2018، بفيلم "أنشودة الجندي" للمخرج جريحوري تشوخراي، وذلك يوم الثلاثاء 18 ديسمبر. ويوحي عنوان الفيلم بأنه فيلم حربي، ولكن من الخطأ تصنيف هذا الفيلم ضمن الأفلام الحربية فلا معارك ولا مواجهات بين أطراف الصراع، هو في الحقيقة عن العواطف الإنسانية المتأثرة بالحرب، وهي الحرب العالمية الثانية وعلى الجبهة الروسية تحديدًا.
يشير عنوان الفيلم بدقة إلى القصيدة الشعرية البسيطة ذات الأصل الشعبي أو أغنية بسيطة رقيقة من قطعتين أو أكثر، لكن بلحن واحد لا يتغير وتمتاز برومانستيها، لذا يشعر الإنسان عند مشاهدة هذا الفيلم أنه أمام أغنية تؤثر بمشاعره أعمق التأثير بسبب سلاسة وبساطة العمل وموضوعه الإنساني.
يحكي الفيلم قصة "اليوشا"، الجندي الروسي والذي يبلغ من العمر تسعة عشر عامًا، وقتل في تلك الحرب مثل الملايين غيره. يبدأ الفيلم بامرأة ترتدي السواد تقف في بداية طريق ممتد أمامها، وصوت من خارج الكادر نعرف أنها أم الجندي "اليوشا"، التي ودعته على هذا الطريق عند ذهابه للحرب وما زالت تعتقد أنه لم يقتل وبالتالي تخرج كل يوم صباحًا لنفس الطريق منتظرة عودته. وبعدها ينتقل المخرج إلى الجبهة، حيث نشاهد "اليوشا" الفتى الوسيم للمرة الأولى في خندق في مكان ما في الجبهة مع رفيق آخر له، وندرك انه جندي لاسلكي فقط.
تهاجم هذا الخندق دبابتان من الجيش النازي الألماني، وينسحب رفيقه ويبقى "اليوشا" ليواجه هذا الموقف، ليجد بداخله بطل خارق عندما قرر إطلاق قذيفة مضادة للصواريخ من مدفع تركه جندي في خندق آخر، ويدمر الدبابة الأولى ثم الثانية. وفي مركز قيادة الموقع، يحتفي رفاق "اليوشا" ببطولته ويقرر القائد أن ينعم عليه بوسام لشجاعته وبطولته، إلا أن "اليوشا" يطلب بدلاً من الوسام إجازة لمدة يومين للعودة إلى قريته لوداع أمه التي لم يودعها كما يجب ولإصلاح سقف المنزل تحسبًا للأمطار ولكن القائد، إعجابا ببساطة "اليوشا" وحسه الإنساني المباشر، يعطيه أسبوعًا.
وفيلم "أنشودة الجندي" رحلة عودة "اليوشا" إلى أمه، وهي رحلة تخللها الكثير من العوائق والمشاكل، وفي طريق عودته يلتقي "اليوشا" الممتلئ بالنبل والبساطة والحس الإنساني نماذج مختلفة من الناس تأثرت نفسياتها بظروف الحرب في وطن انقلبت فيه الحياة تماماً. لكن "اليوشا" يبقى ذاك القروي البسيط في ثياب جندي، وعندما يحاول "اليوشا" أن يركب قطاراً عسكريا عائدا من الجبهة يمنعه الجندي الذي يحرس القطار ولكنه يوافق بعد ذلك برشوته. وفي القطار يلتقي بصبيه رقيقة وجميلة تتطور العلاقة العاطفية بينهما وبينه على الرغم من النفور والتصادم في البداية، وعندما يكتشف حارس القطار وجود هذه الفتاه يقبل وجودها لكن برشوة أخرى، إلا أن الملازم المسؤول عندما يعرف بوجود اليوشا والفتاة ويدرك سبب وجودهما يعنّف جندي الحراسة ويسمح لهما بالركوب.
وخلال مشواره عائداً لقريته، لا يتخلى "اليوشا" عن بساطته وطيبته على الرغم مما يلاقيه سواء من أشخاص يتصرفون بسوء وسط هذه الظروف الصعبة أو بسبب أحوال البلد الذي يواجه تدميراً نازيا مخيفاً.
يستغرق مشوار العودة من "اليوشا" كل زمن الإجازة فلا يبقى بعدها له أي وقت للقاء أمه التي هرعت لاستقباله ولا لإصلاح سقف المنزل، وتكون مغادرته هذه المرة هي الأخيرة، الآمر الذي لا تود الأم أن تقبله وتخرج كل يوم لنفس الطريق منتظرة ابنها. ينتمي هذا الفيلم بصدق إلى أفضل تقاليد المدرسة الواقعية الاشتراكية بوجهها الإنساني.
فاز فيلم "أنشودة الجندي" بعدة جوائز أهمها: "جائزة لجنة التحكيم الخاصة من مهرجان كان السينمائي عام 1960، وجائزة مهرجان سان فرانسيسكو كأفضل فيلم وأفضل إخراج سنة 1960.